من العجيب أن تستغرب ، ومن الغريب أن تتعجب ، شخصية صعبة من بعيد ، ولكنها سهلة الوصول إليها ، يظنون أنه ذات سياسة الأبواب المؤصدة، وتتعجب أنه من سياسات الأبواب المفتوحة، ما يثير الإعجاب والذهول أن الراحل فؤاد العوران -رحمه الله- لفت الأنظار في طفولته ، فقد ظهرت عليه أثناء مراحل صغره قدرات خارقة في الذكاء والفطنة والدهاء والفهم والإدراك ، كما لاحظ البعض إتصافه بسمات موروثة في الشجاعة والجرأة والقيادة في فترة الشباب ، كما اتصف بأنه جديٌّ في حديثه قليل المزاح والضحك ينصت جيدا للمتحدث إليه وهو متحدثٌ ذات فهم واسع للذي يحاوره ، حيث ترجم تلك الصفات والسمات في عمله بالسلك التعليمي والإداري عندما كان معلما ومدير مدرسة ومديرا عاما للتربية والتعليم وسوف نوضح تلك المراحل بالتفاصيل ضمن فقرات المقالة وتسلسلها .
أتصف بالإنضباط في دراسته الإبتدائية و الإعدادية ، يحب كثيرا حصص التربية الإسلامية واللغة العربية ، لديه شغف في قراءة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والتمعن في مدلولات كلماتها و معانيها ، بالرغم أنه كان بارعا ومتميزا في المواد العلمية كالفيزياء والرياضيات والعلوم مما جعله يتخصص في الهندسة الأمريكية في بيروت لكنه إيمانه بالمبدأ جعله يترك الجامعة إلى تخصص ثانٍ في بلد آخر .
كان متفوقا في تحصيله الدراسي على الطلبة في كافة مراحل دراسته الإبتدائية والإعدادية والثانوية ، فقد حقق المركز الأول في الثانوية العامة الفرع العلمي في الإمتحانات التي كانت تجري في لواء الكرك آنذاك .
في عام (١٩٥٧) عين معلما للتربية الإسلامية في مدرسة الطفيلة الثانوية وكان يحمل شهادة المترك في ذلك الوقت ، فقد كان الطلبة يعشقون حصته لما تتضمنه من أسلوب مميز عُرف الراحل بتدريسه ، في عام (١٩٦٢ ) عين سكرتيرا لمدرسة الطفيلة الثانوية خلفا لمرتضى العضايلة الذي عين رئيسا لشؤون الموظفين في الكرك (١٩٦٢) التحق في جامعة دمشق و درس تخصص الفلسفة وعلم الاجتماع لخدمته في علم مقارنة الأديان آنذاك حيث لم يكن هذا التخصص متوفراً بالجامعات الحكومية .
في عام (١٩٦٦) عين في مدرسة الطفيلة الثانوية لتدريس الفلسفة ، حيث كان بارعا في تدريسها ، فقد كان يعلم التوجيهي مبحث المنطق والفلسفة و منطق التفكير والتفكر والتحليل والتعليل والإستقراء وعن الفلاسفة ارسطو وسقراط من الفلسفة اليونانية وابن رشد من الفلسفة الإسلامية وابن خلدون في علم الإجتماع وغيرهم والفرق الإسلامية علم الكلام الذي يتناول الفكر الإسلامي وأبدع في هذه المادة التعليمية حتى أن وزارة التربية والتعليم منحته كتاب شكر لحصول طلبة مادة الفلسفة على نسبة نجاح ١٠٠ % في الثانوية العامة في ذلك الوقت ، حيث كانت علامة ١٠٠ نادرة جدا ، و كان من ضمن الطلبة المتفوقين ممن حصلوا على علامة ١٠٠% الدكتور عدنان عواد الذي كان تربويا مرموقا و محافظا في وزارة الداخلية و سياسيا بارزا تقلد مناصب كثيرة في السلك الجامعي(عضو مجلس أمناء ) والإجتماعي (رئيس ملتقى عفراء ) ، وكذلك الأستاذ سليمان القوابعة الروائي المعروف والمؤلف البارع الذي يشار له بالبنان في الوطن وخارجه .
في عام (١٩٦٨ ) عين مديرا لمدرسة الطفيلة الثانوية وقتها أثبت أنه قائدٌ وليس مديراً ، فقد كان وهو في هرم الإدارة يحل محل معلم اللغة الإنجليزية ، وتارة محل معلم الرياضيات ، وتارة أخرى معلم العلوم حين يتغيب المعلم لظروف طارئه ، فقد كان حريصاً على مصالح الطلاب يشغل حصة المعلم الغائب مهما كان تخصصه نظرا لتفوقه في مختلف المواد العلمية .
تقلد - رحمه الله - مناصب عدة في وزارة التربية والتعليم، حيث عمل مديراً عاماً للتربية والتعليم في محافظة معان ، وكانت العقبة تتبع لها في ذلك الزمان ، فقد كانت المملكة تشمل على خمس دوائر للتربية والتعليم فقط، في كل مديرية تتبع لها مناطق والوية أخرى من المملكة .
استلم منصب مديرية التربية والتعليم بالطفيلة مرتين المرة الأولى في ٢/١٧ من عام (١٩٧٨) ،حيث عمل كمدير مكتب في مديرية التربية والتعليم الطفيلة ووقتها كانت مديرية التربية بالطفيلة آنذاك تتبع لمحافظة الكرك .واستمر بمنصبه لغاية ٩/١ من عام (١٩٨١) .
وبعدها عاد مرة أخرى في ٨/٢ من عام ( ١٩٨٦) مديرا للتربية والتعليم لمحافظة الطفيلة وقتها كانت مديرية التربية والتعليم بالطفيلة منفصلة عن محافظة الكرك ، واستمر في منصبه لغاية ٩/١٦ من عام ( ١٩٩٢ ) وخلال هذه الفترة عمل مستشاراً لوزير التربية والتعليم في الوزارة ، كما عمل مسستشاراً ثقافياً في المملكة العربية السعودية لسنوات .
يعتبر الراحل فؤاد العوران - رحمه الله - أحد أبرز أعلام الأردن في التربية والتعليم من الرعيل الأول القديم من مواليد قرية الطفيلة آنذاك عام ( ١٩٣٧ ) و فيها تلقى تعليمه الإبتدائي و الأعدادي و الثانوي .
ينحدر - رحمه الله - من عائلة ذات نسل و نسب طيب عريق، فجده الزعيم ذياب باشا العوران شيخ مشايخ الطفيلة، و والده الشيخ هويمل وأعمامه الشيخ صالح باشا العوران، والشيخ عبدالله العوران والشيخ وحيد العوران وزوجته أم بلال أطال الله في عمرها قامة تربوية معروفة وهي ابنة الشيخ عبدالله العوران شيخ مَنْقَع الدم المعروف .
اعتبره تربويون وخبراء في التربية ( بالعلامة) نظرا لسيرته الزاخرة بالإنجازات والمؤلفات الكثيرة المتعلقة بالأمور الدينية والتربوية وتدريسه لمواد كثيرة و كأحد أقدم المعلمين في محافظة الطفيلة قبل (٦٥) عاما .
يصنفه البعض كأحد أبرز أعلام التربية ممن استطاعوا توظيف مهارات الإدارة و فنونها لدى ممن أشرف عليهم من المعلمين والمعلمات في آن معا ، فقد كان دقيقا بشدة يحترم الوقت و يجيد إدارته و لا يسمح للوقت أن يقتل نشاطه و جهده يمكن أن نطلق عليه ( الإداري الدقيق) .
أمتلك شخصية فريدة في تعامله مع المقربين يجمع بين الحزم واللين والفكر المستنير والعاطفة المرهفة ، فليس بالصلب الذي يكسر ولا باللين الذي يعصر ، فقد كان يتعاون في اعمال البيت والمطبخ و حنونا على الأبناء والزوجة والجدة وجميع المقربين اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
فكان يكون في بيته الشريف- صلى الله عليه وسلم - في مهنة أهله : يحلب شاته ، ويرقع ثوبه ، و يخدم نفسه ، ويخصف نعله ، فإذا حانت الصلاة خرج إلى الصلاة وصلى بالناس ، ثم جلس إليهم فحدثهم وعلمهم ووعظهم وذكّرهم واستمع إلى شكواهم وأصلح بينهم ، ثم يعود إلى بيته .
حينما أُعلن قبل ستة أعوام عن وفاته ، لم يكن ذلك إعلانًا فقط عن غياب علم بارز من أعلام التربية و الثقافة العربية ، إنما كان ذلك أيضًا إعلانًا عن إسدال الستار على جيل كامل من كبار المتخصصين في التربية والتعليم في الأردن، الذين تركوا إنجازات قيمة لا تنسى سوف تبقى الأجيال تذكرها لعقود ، بعد أن تشرب منه روح البحث المنهجي ودقته واستيعابه وشموله لكافة القضايا التربوية التي عاصرها الراحل فؤاد العوران رحمه الله .
يتمتع الراحل فؤاد العوران بهيبة ووقار جعلته ليكون علماً من أعلام محافظة الطفيلة، وأحد أبرز مدراء التربية بالمملكة الأردنية الهاشمية ، فيما يعتبره البعض بأنه رجل بألف رجل؛ لما يتمتع به من حكمة وذكاء وخلق رفيع ،حيث كان ينتصر للمظلوم ويلبي أمره مهما صغر، علاوة على ثقافته العالية وشدة تدينه ،وخدمته للدين الإسلامي، من خلال المحاضرات والحوارات التي كان يتحدث فيها خلال عمله في وزارة التربية والتعليم عن مكانة الإسلام وتعاليمه السمحة .
ويعرف عن العلامة (فؤاد العوران ) بقوة شخصيته في الإدارة ،حيث يصنفوه البعض بنظرية الرجل العظيم ؛ لما يتمتع به من تقبله لأراء الآخرين ونجاحه المميز في القيادة وإدارة مديريات التربية والتعليم التي عمل فيها ،فهو يعتبر من بين علماء الأردن، الذين تركوا بصمات على مجتمعه التربوي، ومن الذين تميزوا في الإدارة ، وقتها كان يصنف من الشخصيات التربوية البارزة في المملكة الأردنية الهاشمية ، قبل أن ينتقل إلى رحمة الله قبل ستة أعوام .
خبير في تدريس الفلسفة غواص في صيد جواهرها ويعسوبُ في رحيق معانيها و تنوع فروعها ، حيث أنه قائدٌ تربويٌ من المستوى الرفيع للغاية ، ذات الشخصية القوية ، ويمكن أن نطلق عليه ( الرجل الحديدي)، و من الذين تتملكهم جرأة في الحزم والشجاعة والإصرار والعزيمة التي لا نظير لها في قطاع التربية والتعليم والإدارة التربوية ، فقد كان حازما في إتخاذ القرارات بلا رجعة عندما كان مديرا للتربية والتعليم وعلى النقيض من ذلك فقد كان يتمتع بلين وتواضع مع والتساهل مع المواقف وذكاء سلوكي في تقدير الظروف وتجلى هذا في موقف ما حين زار مدرسة نائية فوجد أن المديرة وطاقمها التعليمي قد تأخرن كثيرا عن الدوام المدرسي صباحا ، حيث كان يتجول في المدرسة لحين وصول المديرة والمعلمات اللواتي شعرن بالتوتر والاختلال الموقفي ، حيث أخرج رحمه الله من فكره المستنير منعكسة قائلا : الله يعطيكن العافية في ظل هذه الظروف الصعبة في المدرسة الله يعينكن على الطريق والشمس الساطعة في المدرسة لعدم وجود مظلات شمسية" ، حيث اوعز للمسؤولين بعمل مظلات تقي المعلمات من حرارة الشمس ، وأمطار الشتاء ، حيث تفاجأن واندهشن من سلوك المسؤول الكبير الذي كان يعرف في ذلك الوقت بالشديد .
كان نظاميا رحمه الله ، شديدا على الأخطاء ، حازما في تصحيحها ، عازما في إقرارها ذات هيبة و وهرة في إتخاذ القرارات لمصلحة العملية التعليمية في مديرية التربية والتعليم ، حيث إن هذه الوهرة و الشدة و الحزم كانت دوما لمصلحة العملية التعليمية مما شكلت منظومة متكاملة عملت على إنتاج قيادات تربوية فيما بعد ، و أصبحن نشاهد ثمارها و نتاج غرسها على مجتمعنا في المحافظة .
يقال أنه كان دقيقا بشدة يحترم الوقت و يجيد إدارته و لا يسمح للوقت أن يقتل نشاطه وجهده بل يستغل كل قسمات الوقت في توظيفه لصالح العملية التعليمية ، لله درك يا أبا بلال من وضع النقاط على الحروف !
ويقال أنه كان يخرج إلى خارج أسوار المدرسة إلى الشارع المحيط بالمدرسة قبل بدء الطابور الصباحي و توافد و مجيء الطلاب إلى المدرسة و عند مغادرتهم أسوار المدرسة يراقب كل شاردة و واردة حفاظا على الطلبة .
كان يعشق الشعر و الأدب و اللغة العربية وآدابها والمناظرات الشعرية في البيت والرحلات والجلسات ، وكان يحب لعبة الشطرنج التي تعتمد على الذكاء و يدرب أبناءه عليها لتنشيط الذاكرة الذهنية والعقلية وهذا ما يدل على ذكائه منذ صغره .
في إحدى زيارتي لإحدى مدارس قصبة الطفيلة عام (٢٠١٣ ) لفت انتباهي إحدى مديرات المدارس ، حيث كنت وقتها مسؤلا للإعلام التربوي في تربية منطقة الطفيلة وأردت كتابة تقرير عن المدرسة كونها مستأجرة و مجاورة للسكن ولم يسبق زيارتها لتغطية نشاطاتها كما أفعل مع المدارس الأخرى ، فقد كانت تتصرف بكل حكمة و روية مع معلمات المدرسة و الطلبة مع أنني علمت عنها من بعض التربويين أنها شديدة و حازمة و صعبة .
أول ما دخلت بوابة المدرسة شعرت أن مديرة المدرسة على درجة عالية من الحكمة و الشجاعة في آن معا ، فقد كانت المدرسة نظيفة و منظمة و كأنها خلية نحل ، فالكل يقوم بواجبه و عمله على أكمل وجه حتى أنني شاهدت الطلبة في حالة من النظام و الهدوء و التقيد في التعليمات المدرسية ، فلم أسمع صرخات الطلبة و أحاديثهم مع أن المدرسة تبدأ من الصف الأول و حتى السابع ، و تزامنت زيارتي مع إنتهاء الحصة الأولى و وجود استراحة للطلبة ما بين الحصتين وهذا الشيء الغريب حقا .
بينما كنت أسير في ممر (كردور) المدرسة وقع نظري على غرفة صغيرة و عندما أمعنت النظر إذ بها مكتبة تحتوي على كتب و مجلدات و ما هي لحظات حتى حضرت المديرة و سألتها عن هذه الغرفة و كأنها قالت:" إنها مستودعا مهجورا قامت بإعادة تنظيمة وترتيبه على حسابها الخاص ، كون المدرسة ضيقة الغرف و المساحة و لا يوجد فيها مكتبة كباقي المدارس " .
أضافت" أنها أحضرت كتب والدها القيمة التي كتبها لينتفع منها المعلمات و الطلبة و المجتمع الذي يزور المدرسة ، بعدها غادرت المدرسة بعدما التقطت بعض الصور لأعمال المدرسة و معلومات أوردتها المديرة و على رأسها ضرورة مخاطبة المسؤولين بضرورة بناء مدرسة كبيرة تستوعب الأعداد المتزايدة من الطلبة؛ كون المدرسة تقع في حي مأهول بالسكان و نظرا لسمعة و كفاءة معلمات المدرسة و خاصة معلمات المرحلة الإبتدائية في حسن تدريس الطلبة الصغار .
عندما أخبرت رجالات التربية عن هذه المدرسة و تميز و حكمة المديرة قالوا :" لا غرابة فيما تقول أنها إبنة التربوي فؤاد العوران شفاه الله ، فقد كان- رحمه الله - في ذلك الوقت على قيد الحياه إلا أنه في وضع صحي حرج ، و لا أخفي عليكم أنني وقتها شعرت بالذهول و الإحراج عندما علمت أنها إبنة الراحل فؤاد العوران -رحمه الله - و كيف أنها جلبت كتب و مؤلفات و مقتنيات و الدها الى المدرسة ، فقد كنت أسمع عن الراحل و عن شخصيته إلا أنني لم أعاصره لصغر سني و كون الراحل مديرا قديما للتربية و التعليم في الطفيلة و خارجها ، وقتها أدركت أن تلك المديرة قد تقمصت من شخصية والدها الموروثة ، فهي شديدة و حازمة عندما يتطلب الشدة و لينة و حنونة في مواقف العطف ،و أدركت أن هذه المديرة ورثت الصفات القيادية عن والدها - رحمه الله - والذي بدوره وَرَثَ الصفات الموروثه عن جده الزعيم ذياب باشا العوران في الحكمة و الهيبة و الجرأة و البصيرة و الشجاعة و بالتالي أورثها لإبناءه ممن يعملون في مؤسسات الوطن و تلك المديرة التي هي من أحفاد جدها الأول، وقيل لي أن ابنة أخرى له في قطاع العام تقاعدت مؤخرا شبيهة بسلوك والدها في تلبية حاجات الناس بما يخدم المجتمع ككل و تسهيل الأمور .
وفي الختام ، نتضرع إلى الله أن يغفر لأبي بلال ويسكنه فسيح جناته ، وأن يجزيه الله تعالى خير الجزاء على ما قدم من سجل حافل بالعطاء والإنجازات التي سوف يذكرها الأجيال كمثال على المدير المثالي و القائد و المربي والخبير ذا البصيرة الثاقبة والنظرة الشاملة ، وأن يلهم أبناءهُ الصحة والعافية ، و أن يزيدهم الله تعالى علما و حكمة ، و أن يحفظهم ، و أن يبارك الله في عمرهم، و أن يديم في بيتهم الخيرات والمسرات .