يبدو المغفور له بإذن الله تعالى "يونس عبدالله محمد مطلق علي الدخاليل المزايدة" للوهلة الأولى كغيرة من فئة الصم والبكم، بما يملكه من مشاعر وأحاسيس عميقة وقوية لدى رؤيته شفاها تنفتح أمامه وتغلق وهو لا يعلم من ذلك شيئا، ولكنه يختلف عنهم بأنه أكثر حبا وذكاء ومشاركة واندماجا في المجتمع المحلي، فهو سريع الرضا بأشياء قليلة "تطيب خاطره" ولديه القدرة في التعبير عن مشاعره الفياضة التي فهمناها جميعا، فشاركنا فرحتنا وأحزاننا، وقد يكون البعض من أهله وذويه قد شاركوه القليل من أسرار حياته ومشاكله، فهو نادر التذمر دائم الرضى وراسخ القناعة بما هباه الله ورزقه.
فلو قارنا هذه الحالة الفريدة للمرحوم "يونس" بأفراد صم وبكم أخرين الذين من الطبيعي أن تحمل عواطفهم شيئا من العصبية لعدم استطاعتهم التعبير بسهولة بالكلام مثل الإنسان العادي، لوجدنا صمته هو كل شيء؛ فهو الكلام والحضور والفعل وردة الفعل، ولوجدنا أيضا أن هذا الصمت الجميل هو ملاذ الروح المهذبة العاشقة للجمال التي تأوي مساء كل يوم إلى محراب السكينة والهدوء، في بيت سكنه العائد لجده " محمد" رحمه الله وغفر له وتوصد من خلفها كل الأبواب في وجه الضجيج وحركة الحياة، فهذا البيت كان ملاصقا للمسجد القديم وعلى مسافة تبدو أكثر بخطوات من المسجد الكبير، ولكنه على مدى عقود لم يلتفت إلى صوت "المحددة" المحاذية لسكنه ولم يشتك إلى أصحابها ولو لمرة واحدة .
" 1"
فقبل قرابة ثمانية عقود وتحديدا في عام 1935م ولد " يونس" الذي أجمع من تم التواصل معهم أن والده " عبدالله" رحمه الله وغفر له قد توفي أثناء حمل والدته الحاجة المرحومة " صبحه حرب المسيعديين" رحمها الله وغفر لها، والتي بعد فترة زمنية بسيطة أي في عام 1936م، تزوجت من المرحوم " أحمد سعيد سعود المسيعديين" رحمه الله وغفر له واسكنه فسيح جناته، وانجبت منه الأستاذ الفاضل "خليل"، والمرحوم إبراهيم، وكريمتان: أم سلامه أحمد المسيعديين، وأم روحي رجا الشروش، رحمهم الله جميعا.
لا يوجد معلومات مؤكدة حول هل ولد " يونس" من أصحاب "فئة الصم والبكم" أم تعرض لحادث أو لمرض بعد ولادته تحديدا في سنوات طفولته الأولى، فهو اجتماعيا وتفاعلا وحضورا لم يكن من الدرجات الثلاث المصنفة طبيا للصم والبكم والذين بعضهم لديه اعاقة كاملة، والبعض لديه حاسة السمع بنسبة ضعيفة للغاية، والفئة المتقدمة منهم قد أصابتهم الإعاقة نتيجة فيروس الحمى الشوكية في الطفولة، وهؤلاء لديهم حصيلة لغوية تساعدهم في التعامل بل في إثراء الجانب اللغوي عن بقية أقرانهم من الصم والبكم.
"يونس" الذي تزوج لليلة واحدة ليطوي بعدها إلى الأبد هذه التشاركية وهذا السكن وهذا العبء، عمل بداية كمزارع وفي الأعمال الحرة ذات الأجر اليومي، فهو يمتلك ذكاء حادا ويتميز بالفراسة وليس كما يعتقد الكثير من الناس أن هذه الفئة تفكيرها وقدراتها محدودة، بل العكس صحيح فقد أنعم الله عليه بسرعة البديهة والفراسة لتعوضه عن الحواس التي فقدها، وهنا لابد من التفرقة بين أصحاب الإعاقة الذهنية التي تعني اخفاقاً في القدرة على الاستيعاب والفهم والذكاء، وبين الصم والبكم إذ الكثير منهم لا يعانون من الإعاقة الذهنية ولكن يبدو عليهم ذلك بسبب فقد حاسة السمع والكلام.
وأنفرد عن غيره أنه "يرحمه الله" عند المواقف والأحداث على المستوى الشخصي والاجتماعي بتفاعله معها بصورة ايجابية مذهلة، فهذا الصمت يترجمه ذكاء عندما لا يجرح مشاعر أحد، ويكون كلامه عذبا عندما يدخل السعادة على قلوبنا خلال التواصل معنا بلغته البسيطة، وتميزه في إنسانيتّه وبسمته بعد كل عملية تواصل ليغادر المشهد حيث قرر هو لا نحن.
"2"
فلا ننسى ردة فعله تجاه التباين في الآراء الذي كان يحدث خلال الانتخابات النيابية أو البلدية، لأنه يعبر عن أمله في أن كل حدث يجب أن يجمعنا ويوحدنا ويضعنا على مسار واحد وناجح، لنحصد أفضل النتائج لأنه ينظر لنا بقلبه ومشاعره الطيبة ويتمنى لنا الأجمل، لأن المسافة بيننا لا تتجاوز الصوت الصادر من شفاهنا لنتمايز في الطرح والتفاعل والتشارك وفي هذه الحياة وفي نصبها.
كما أننا مازلنا نتذكر مشاركته لنا في مختلف الفعاليات سواء التي يعمها الفرح أو يوشحها الحزن، كعادته بزيه المعهود والعصى التي يضعها تحت ابطه لدى الحديث والعمل، ليقوم بدور قيادي في هذه المناسبات التي يحرص على أن تظهر بأجمل صورة، من حيث اهتمامه بإشعال النار ومراقبة تحركات الأطفال وهم كثر في مثل هذه المناسبات ولطالما كان الرادع لهم مجرد طرح اسمه.
كما أنه يعرف الأجداد والآباء والأحفاد فتراه يتحدث مع الحفيد عن جده أو عن شقيقه الأكبر أو عن والده ويقوم هذا الطفل أو الشخص بنقل كلام "يونس" بالتفاصيل، وهذا ما شرحته لأبني بندر بأنه عندما كان يلقاني ونحن في الصفوف الإعدادية، كان يتحدث عن والدي وأفهم من تواصله بأنه يحترمه ويحبه، وبأنه سعيد بصحبته لأخي الأكبر أبو علاء وأنه يفتخر برتبته وبزيه العسكري.
أشياء كثيرة لم يتحدث عنها "يونس" الذي حصل على بطاقة أحوال مدنية بتاريخ 1/5/1971م، ولكنها قيلت بالصمت وأشياء كثيرة لم ندركها عندما كنا في القرب منه، ولكن القلب أدركها عندما نتذكره بعد رحيله، هكذا هي الأشياء العميقة عندما تتوارى معانيها بين ضجة المواقف وزحمة الأحاديث، كما أننا ما زلنا نتذكر ايقاع حياته اليومية وحضوره الدائم منذ ساعات الصباح الأولى في عموم المشهد بظرفية المكان والزمان، وبقلبه الكبير وتسامحه اللامحدود، ونجاحه في عدم إحداث لو موقف خلاف واحد مع أي شخص، فهو فهمنا جميعا وعاملنا بكل احترام وتقدير، وكفانا عناء ومشقة التواصل معه بسرعة بديهته وحكمته واتقانه لغة الإشارة التي لم تكن مجرد إشارات وإنما احاسيس ومشاعر نبيلة تبادلها مع كل من تعامل معه، فلم يكن لديه الكثير من الأسرار والتعقيدات النفسية، ولكنه كان دائم الحركة والعطاء والتواصل والتفاعل.
"3"
على مائدة الحياه هناك حبّ يجمعنا ومشاعر مختلفة نتذوقها وتفاصيل نتأملها بالصّمت ونعبّر عنها بالكلمات، ولكن إعاقة "يونس" رفيقه الأزلي في هذه الدنيا لم تمنعه من الشعور بنا والتواصل معنا في كل مناسبة، ولكنه سبق الجميع بهذه المشاعر الصادقة النبيلة حيث علم بوفاة والدته الحاجة " أم إبراهيم" رحمهما لله وغفر له واسكنها فسيح جناته التي توفيت بتاريخ 24/3/1992م، دون أن يعلمه أحد فكان من أوائل الذين وصلوا إليها، وبدا في منتهى الحزن وبأعلى درجات الالتزام الأخلاقي في التعبير عن مشاعره تجاه والدته، التي في احدى محطات حياتها سكنت مع ابنها الأستاذ الفاضل "خليل" بجوار منزل والدي رحمه الله في حي الميدان، فربطتها بالوالدة " رحمها الله" علاقة متجددة راسخة متجذرة، فكانت سيدة فاضلة حكيمة تفوح بمنطقها وصواب عقلها وحكمتها مسكا وعنبرا، فحديثها يعكس عقلا كبيرا يجسد الدور الرائد للمرأة في التعقل في المهمات والفكر وفي أصالة الرأي وحكمة المشورة في نوع مهمتها وبما فضلها الله.
في النصف الثاني من العقد السابع من عمره مرض " يونس" الذي كان يحصل على معونة من التنمية الاجتماعية في السنوات الأخيرة من عمره، وتم إدخاله إلى مستشفى الأمير زيد في الطفيلة، ومكث فيه قرابة أسبوعين وبعد خروجه من المشفى، طلب منه شقيقه الأستاذ "خليل" أن يستضيفه ولكنه رفض، بلفته البسيطة التي لها معنى وحضورا مختلفا فأصدق القلوب تلك التّي تجيد الصّمت وتحترم قيمة الصّبر لأنها ترى ببعد مختلف، وبعد ذلك وبهدف تقديم أفضل الرعاية له والمحافظة على صحته في مرحلة بدا كأنه من كبار السن، تم إدخاله إلى دار رعاية المسنين في الجويدة، ولم يمكث طويلا حيث انتقل إلى جوار ربه بتاريخ 17/10/2010م، بعد قرابة عشرة أيام من تمرضه في مستشفى البشير.
كما أنه لدى وفاته ورثه أحد أبناء عمومته من الدرجة الرابعة ويدعى محمد سليمان مطلق المزايدة، وهو ابن عم والده.
لاقى نبأ وفاته صدمة وحزنا وحسرة لدى أبناء السعوديين الذين احبوه وبادلوه الاحترام والتقدير وساعدوه على وضع بصمته الاجتماعية الإنسانية الصادقة، فهم بذلك يمثلون أعلى درجات الفضيلة المجتمعية والتسامح والاحترام، وهكذا هم يجسدون المجتمع النبوي الذي يتضافر في مواساة ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتعاون في تكريمهم، ويتحد في تشريفهم، وكل ذلك اقتداء بمنهج نبي الرحمة ﷺ مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
العالم الغربي لوقت طويل وقرون غابرة يعتقد أن المعاقين عقليًّا هم أفراد تتقمصهم الشياطين والأرواح الشــريرة. وتبنّى الفلاسفة والعلماء الغربيون هذه الخرافات، فكان فلاسفة أثينا يطالبون بالتخلص ممن بهم إعاقة تمنعه عن العمل والحرب، وجاء "أفلاطون" وقال إن ذوي الاحتياجات الخاصة فئة تشكل عبئًا على المجتمع وتضر بفكرة الجمهورية، وهناك من طالب بمنع شتى صور المساعدة لهم بزعم أن هذه الفئة تثقل كاهل المجتمع بكثير من الأعباء دون فائدة.
ولكن العرب قديما -وإن كانوا يقتلون البنات خشية العار- كانوا أخف وطأة وأكثر شفقة على أهل البلوى والزمنة، وإن كانوا يتعففون عن مؤاكلة ذوي الاحتياجات الخاصة أو الجلوس معهم على مائدة طعام.