صحيح أنّ وحدتي العسكرية الأولى هي الخدمات الطبية لكن وحدتي الثانية والعزيزة على قلبي والتي لا تغيب عن ذاكرتي هي وحدة والدي رحمه الله اللواء المدرع اربعون و كتيبة الدبابات الرابعة بالذات . وأخص من ذلك مهمة والدي في قيادة مسلحة الإستطلاع سكاوت (Scout) وهي اصغر حجما من مسلحة صلاح الدين مع انها تشبهها شكلا وتناط بها مهمة كشف العدو وتزود برشاش وطاقمها اثنان وهي تتقدم على كل الآليات بمسافات طويله معرضةً نفسها لنيران العدو وكمائنه.
في نهاية الخمسينيات تعرض بلدنا لأخطر تهديد على كيانه وكانت مهمة الدفاع عن حدوده الشمالية من مهام اللواء المدرع اربعين . وكانت هذه المسلحات هي العنصر الأكئر حركة والمناط بها حراسة الحدود الشمالية من أقصى شرقها لأقصى غربها. قضوا فيها شهوراً عديدة من أصعب ألأيام لا يتخللها النوم إلا ساعات قليلة والإجازة 48 ساعة في الشهر يحسب منها يوم المغادره ويوم العوده !
ولتنتهي هذه المهمة في حماية الوطن على خير ولينتقلوا وبدون استراحة لمهمة اخرى سامية لحماية القدس والأقصى في نفس فترة الخمسينيات , ومن ذكرياتها انه لم تنسى في نفس الوالد مرارة ضياع فرصة صلاة الجمعة في الأقصى حينما جاءت الاوامر للالتحاق بمواقعهم العسكرية صباح يوم الجمعة وقبل الصلاة بساعات . فما زال يذكر اسم قائد الشرطه العسكرية الذي أعطى الأمر بذلك, والذي شاءت الأقدار أن يكون مريضي في الثمانينات أثناء خدمتي في مدينة الحسين الطبية . ولكنها الأوامر حتى الصحابة تركوا صلاة الجمعة في المسجد النبوي قبل ساعات من الصلاة حينما ينادي منادي الجهاد .
وحتى بعد انتهاء والدي لخدمته العسكرية بقيت روح الجندية والشعور في المسؤولية نحو زملائه في دمه . وفي روح هذه المعاني معلوم ان بلدتنا ماركا الجنوبية احدى مواطن عشيرتنا الدعجة وهي محاطة بالمرتفعات التي تحيط أيضاً بمطار ماركا العسكري , وكان على رأس كل جبل مدفع 101 مقاوم للطائرات , وكان لها دور بطولي في صد هجوم طائرات العدو الصهيوني , شاهدتها بعيني وسمعت صوت المدافع وهي تنهال على طائرات العدو حين هاجمت مطار ماركا العسكري سنة 1967 .
وفي محنة 1970 وقبيل أحداث أيلول حوصر أحد هذه المدافع من قبل المسلحين ولم يكن هناك طريق لإيصال التموين له . فما كان من الوالد الذي تنبه لذلك تدفعه حميته وشعوره مع إخوانه وكلفني حين ذلك وانا طفل ,لا ألفت إنتباه المسلحين, لتكون مهمتي فك الحصار فيحملني ما قدره الله عليه من مؤونة لإيصالها لإخوانه العسكريين المحاصرين وهو لا يعرف شخصياً حينها أحداً منهم .
ولإنها لا تنسى من الذاكرة كان قائد هذا المدفع من عشيرة الصرايرة الكرام وكان على كتفه 3 شرائط وتاج (رتبة نقيب حينئذ) واليوم تسمى رقيب اول أصرّ بعد إنتهاء المحنة وفك الحصار أن يقوم بنخوته الكركية وهم أهل الكرم أن يقيم وليمة في نفس الموقع واشترط أن يحضرني والدي معه . فكان منسفاً من أجود ما أكلت وقد استخدم فيه خبز الجيش بدل الرز فالتصق ذلك بذاكرتي .
من منا اليوم يغامر بابنه وهو طفل ليتسلق الجبال مخترقاً كل المخاطر لينصر المظلوم ويفك حصاره ؟
رحم الله والدي و والديكم وجزى الله والدي عني خيرا الذي علمني معنى الكرامة والدفاع عن الوطن ونصرة الحق .