آخر الأخبار

الجامعات و البطالة و سوق العمل

راصد الإخباري :  


أ.د. محمد خير الحوراني  

ليس هناك أمراً يشغل بال الأردنيين هذه الأيام أكثر من البطالة فالعمل  يعني لقمة العيش الكريمة و البطالة تعني الجوع و العوز و التشرد و الضياع و انتشار الآفات الاجتماعية التي تهدد الأمن الاجتماعي للمجتمع و قد اجتهد المعنيون بالبطالة على المستوى الرسمي في تفسير ظاهرة البطالة و أسبابها فكان هناك طروحات عديدة منشأها انطباعات فردية أكثر من ارتكازها إلى بحوث علمية رصينة. و كم كنت اتمنى أن أجد دراسة تخرج عن احدى الجامعات  الأردنية أو وزارة العمل تصنف العاطلين عن العمل في شرائح و نسبة كل شريحة الى العدد الكلي من العاطلين عن العمل ليصار الى تشخيص مشكلة البطالة ثم وضع العلاج المناسب للتخلص منها أو تخفيف آثارها.
النظريات الرائجة لتفسير البطالة 
لقد راجت لبعض الوقت نظرية "ثقافة العيب" لتشخيص سبب البطالة في صفوف الجامعيين و مفادها أن الشباب الأردني لا يقبل على بعض المهن لشعوره بالعيب أن يقبل على مثل بعض المهن اليدوية و شاعت هذه النظرية بعض الوقت الا أنه لم يعد أحد يتحدث عن  نظرية العيب فقد اثبت الشباب الاردني أن لديه الاستعداد للإقبال على أي عمل و ما هؤلاء الشباب الذين يجوبون شوارع العاصمة و مدن رئيسة أخرى يمتطون السكوترات و السيارات الصغيرة ليوصلوا المأكولات و المشتريات من المحال التجارية و ما تلكم الفتيات اللواتي شمرن عن سواعدهن و يعملن في محطات التزويد بالوقود الا مثالاً صارخاً على أن مطارق الحياة المادية اجبرت الشباب الأردني على أن يقبل بأي عمل يكفيه مؤنة أن يكون عالة على المجتمع و ذهبت أمام هذه المشاهد نظرية العيب إلىى غير رجعة.
أما النظرية الثانية و هي عدم موائمة مخرجات قطاع التعليم العالي لسوق العمل و اصبحت هذه المقولة تتردد على كل لسان بما في ذلك رؤساء الجامعات و وزارة التعليم العالي و وزارة العمل و أحد سمات عدم الموائمة ضعف التدريب و اتجه دعم وزارة العمل الى دعم تدريب خريجي الجامعات بالاشتراك مع  الجامعات و الجهات المعنية الأخرى و على أساس أن التدريب سينتهي بالتشغيل و لكن فيما أعلم أن التدريب لم ينته بالتشغيل فالقطاع الخاص له حجمه و له فلسفته الخاصة و لا يحتمل البطالة المقنعة و لا التوسع في اليد العاملة دون مبرر.
في تفسير العلاقة بين البطالة و  مخرجات الجامعات
الفكرة التي نطرحها في هذه المقالة   و التي لم تلامسها تصريحات وزارة العمل و لا التعليم العالي و لا كثير من المقالات التي كتبت في موضوع التعليم العالي و التي يتبناها كاتب هذه السطور أن الجامعات في وطننا الحبيب تبنت نموذج الجامعات الغربية و التي أصلا تشهد الكثير من النقوش في ساحاتها الخارجية أنها أسست أصلاً لتزويد سوق العمل بما يحتاج إليه من القوى البشرية و فعلاً ساهمت الجامعات في نهضة المجتمع و تقدمه. 
    الجامعات، إذاً, وجدت لتزويد سوق العمل بما يحتاج إليه من القوى البشرية فالجامعات تنقاد لحاجة سوق العمل و بما أن الجامعات بيوت خبرة من طراز رفيع ‘ أو هكذا يفترض، فقد تدرس الجامعات حاجة السوق و تنبري لأداء دورها الأساسي و تدرس الحاجات المستقبلية لقطاعات الانتاج في المجتمع و تقوم بالوفاء بإلتزامها للمجتمع و تطرح من التخصصات ما يلبي حاجاته المستقبلية.
الجامعات الأردنية تاريخياً تبنت النموذج الغربي للجامعات و على وجه  التحديد النموذج الأمريكي  و الجامعات الأردنيه في تخصصاتها و بنيتها الادارية أنشئت على غرار الجامعات الأمريكية و الغربية منذ تأسيس الجامعة الأردنية في الستينات من القرن الماضي.
و عندما انشئت الجامعة الأردنية كانت رسالتها تزويد المجتمع بمعلمين للتعليم في وزارة التربية و التعليم التي كانت تعاني  نقصاً في اعداد المعلمين العاملين في المدارس و كان الخريجون في مختلف التخصصات يجدون عملا لأن سوق العمل في تلك الفترة كان متعطشاً للخريجين المتخصصين في مختلف التخصصات. و في العقود التالية لتأسيس الجامعة الأردنية أنشئت جامعات رسمية و خاصة أخرى و لم يكن هناك استراتيجية واضحة سواء لوزارة التعليم العالي أو للجامعات نفسها في أهداف الجامعة و رسالتها و رؤيتها المستقبلية و زاد على ذلك أن النظرة المجتمعية للجامعات أنها مناطق تنموية و أنها تشكل فرصة للحصول على فرصة عمل دون الدخول من بوابة ديوان الخدمة المدنية و تحملت الجامعات عبئاً ثقيلا في تحويل البطالة إلى بطالة مقنعة من خلال استيعاب نسبة عالية من العاطلين عن العمل و غضت الحكومة النظر عن ما يجري في الجامعات مما أثقل كاهلها و أرهق موازنتها و اصبحت ايرادات الجامعات الذاتية لا تكاد تكفي لدفع رواتب الموظفين و اعضاء هيئة التدريس فيها. 
و مع تناقص الدعم الحكومي للجامعات أصبح على الجامعات أن تبتكر وسائل جديدة للدخل فكانت ولادة البرنامج الموازي الذي يطعن في شرعيته رموز وزارة التعليم العالي و كان هناك ولادة تخصصات جديدة تحت مسميات جديدة من أجل أن تكون هذه البرامج برسوم جديدة أعلى من  رسوم البرامج المعتادة. 
و أرجو أن لا يجد البعض فيما أقوله تحاملاً على الجامعات أو على وزارة التعليم العالي فوزارة التعليم العالي و الجامعات لم تشعر بأن لديها مسؤولية حصول الخريج على فرصة عمل بل كان الاعتقاد السائد هو أن الجامعات تقع على عاتقها مسؤوولية تعليم الطالب و أما حصوله على فرصة عمل فتلك  قصة أخرى. 
   و عوداً إلى تبني جامعاتنا الوطنية و ابتداءً من الجامعة الأردنية ، الجامعة الأم ، نموذج الجامعات الغربية و الأمريكية بشكل خاص فقد توسعت الجامعات الأردنية في  برامجها  و في المستويين البكالوريوس و الدراسات العليا و كانت النظرة لهذا التوسع و الزيادة المطردة في عدد الجامعات على أن هذه الجامعات هي مشاريع استثمارية تجلب معها فرص العمل للأردنيين دون الاكتراث لمرحلة ما بعد التخرج و ان كان الخريجون سيحضون بفرصة عمل أم لا.
و السؤال المطروح، كيف للجامعات أن تتوائم مع سوق العمل و من الذي سبق الآخر ، سوق العمل أم الجامعات و من منهما عليه أن يتلائم مع الآخر؟ و للإجابة على هذا السؤالن لنستعرض واقع البرامج في الجامعات الأردنية.
لقد اسست الجامعات الاردنية على غرار الجامعات الغربية في دول صناعية كبرى مخرجات الجامعة تصب في سوق عمل واسع يستوعب الخريجين و يقوم بتدريبهم ليتلائموا مع الصناعة الخاصة التي يندمجون فيها. و في الأردن، يتخرج الخريجون على أمل اندماجهم في سوق العمل و لكن سوق العمل بشقيه العام و الخاص ضئيل جداً مقارنة مع مخرجات الجامعات و لا يستطيع أن يستوعب الأعداد الغفيرة  من الخريجين مما يؤدي إلى زيادة أعداد المتعطلين عن العمل و تفاقم مسألة البطالة. و ان كانت بعض الجامعات و بمباركة  غافلة  من وزارة التعليم العالي قد شرعت في تدشين برامج جديد لإعتقاد وزارة التعليم العالي و الطلبة و ذويهم أن هذه التخصصات ستكون بوابتهم المفتوحة على مصراعيها للحصول على فرصة عمل فللحقيقة و للتاريخ أن تدشين برامج جديدة لن يفيد في كبح جماح البطالة مالم يكن هناك نمو في سوق العمل يوازي هذه البرامج الجديدة و يستوعب مخرجاتها.
و لن يجدي تصنيف البرامج إلى مشبعة و راكده و لا تقليل عدد المقبولين في بعض البرامج و لا تدشين برامج جديدة ما دام أن هناك فصاماً بين اعداد المقبولين و ما يمكن أن يستوعبه سوق العمل منهم و ما دام سوق العمل قاصراً و متخلفاً عن استيعاب مخرجات الجامعات.
التشخيص و العلاج
الكلمة الفصل في تفسير البطالة بين الجامعيين هي في سوق العمل و ليس في مخرجات الجامعات فمخرجات الجامعات لا تقل عن افضل ما هو موجود في الدول الصناعية و لقد قطعت الجامعات شوطاً بعيداً في الارتقاء بمخرجاتها و  تجويدها و ما تقوم به هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي و ارتقاء جامعاتنا الرسمية و الخاصة على سلم التصنيفات العالمية ما هي الا شواهد على أن نظامنا التعليمي بخير و جامعاتنا الوطنية بخير.
و أما الأصوات التي تخرج أحياناً لتتحدث عن تراجع التعليم الجامعي في بلادنا فهي تستند إلى انطباعات شخصية و لا قيمة لها أبداً في عصر تقدمت فيه أدوات القياس و التقويم و مثل هذه الأصوات تفت في عضد جامعاتنا الوطنية التي تستهدف أن يكون الأردن مركزاً هاماً للسياحة التعليمية و مركزاً للتنوير الإقليمي و العالمي على السواء و استقطاب أكبر عدد مممكن من الطلبة الوافدين. 
و بالرغم من التشجيع على التعليم التقني و المهني فلن يجدي التعليم التقني و المهني شيئاً مالم يكن هناك تحول متدرج إلى دولة صناعية أجل التحول إلى دولة صناعية توفر فرص العمل للخريجين.
التحول إلى دولة صناعية
إذا كان النظام التعليمي لدينا مصمم على نسق الدول الصناعية الكبرى فهذا بكل بساطه يعني أن مشكلة البطالة في صفوف الجامعيين لا يمكن حلها إلا بسوق عمل يستوعب مخرجات الجامعات و لن تحل المشكلة بالكامل إلا بالتحول لدولة صناعية.
و التحول لدولة صناعية يجب أن يكون هدف استراتيجي تقوده الدولة أي يقوده القطاع العام إذا لم يتصدى القطاع الخاص لهذه المهمة. و لقد قادت الدولة الأردنية هذا التحول في الخمسينات من القرن الماضي عندما أسست الصناعات التعدينية الكبرى مثل الفوسفات و البوتاس و كان للحكومة أسهم في العديد من الشركات الأخرى و كان هناك شركات أخرى أسهمها مكفولة من الحكومة. 
و لن تحل مشكلة البطالة في صفوف الجامعيين إلا إذا وجد المهندس الكيميائي فرصة عمل في مصانع الإنتاج المختلفة سواء كانت صناعات تعدينية أم صناعات منظفات كيميائية أم صناعات البتروكيماويات و سيجد مهندس الكهرباء و الإلكترونيات فرصة عمل في مصانع الأجهزة المنزلية بإختلاف أنواعها و سيجد المهندس المعماري و المهندس المدني فرصة عمل في الشركات العقارية و بناء الطرق و السدود. و  سيجد االمهندسون الزراعيون فرص عمل في التصنيع الغذائي و مشاريع الثروة الحيوانية و غيرها.
و هذا التحول ليس بالضرورة أن يكون بين عشية و ضحاها و لكن قبل أي شيء أن نمتلك الارادة للسير بهذا الاتجاه و أن توضع الخطط اللازمة على المدى القصير و المتوسط و البعيد و حينئذ نقضي على البطالة و نخفف من غلوائها و يصبح للتعليم قيمه و من خلال التفاعل الجاد بين قطاع التعليم و الصناعة يمكن ضبط بوصلة التعليم العالي  في الاتجاه الذي يخدم الصناعة و حينئذ يمكن الحكم على مخرجاته و الحكم هو سوق العمل.
___________________
* أكاديمي أردني و رئيس جامعة الطفيلة التقنية الأسبق.