تكتب الاديبة د.نعمات الطراونه، ومصات تراثية، تستذكر فيها طبيعة الحياة في النصف الاول من المئوية الماضية
وتكتب هنا عن "عدل الطحين" التي تمثل المخزون الاستراتيجي للاسرة، بعد جهود مضنية لجني محصول القمح، وعمليات التهيئة لاعداده دقيقا سائغا للخبز
وتاليا التفاصيل
يُعلن موسم الحصاد والبيادر الرحيل ويلملم الفلاحون آخر حبات قمح بيادرهم لتكون علفا للدجاج، وبقايا التبن التي علقت بالأشواك طعاما للدواب أو زبلا للطابون،
ويحرصون على ترك ما جد النمل في جمعه حول بيوته مونة له طوال فصل الشتاء.
تشرع جدتي _رحمها الله_ وأمي بتنفيذ مشروعهما الذي اتفقتا عليه في فصل الشتاء،
فالبيت أصبح بحاجة إلى عدل طحين جديدة بعد تلك التي نالتها أسنان الفئران في الصيف المنصرم، حتى الفئران كان لها نصيبها من قوتنا،
كيف لا وهي التي تعيد فتح منافذ لها كلما أغلقوا جحرها بحجر ووضعوا بعض الطين خلفه.
تقرر جدتي فك العدل القديمة لتلحقها برفة بيت الشعر التي اهترأت وتطوقها ببعض أكياس الخيش، وبعد الانتهاء من هذه المهمة
تفتح أكياس الصوف المخزنة لاختيار الصوف المناسب لتخلطه مع شعر الماعز الذي قصه أبي وحرصت جدتي على جمعه بعناية وأضافت إليه كمية اشترتها من عند أحد التجار المعروفين ببيعه في مدينة الكرك
ذاك التاجر الذي ما زالت صورته ماثلة أمام عيني بثوبه الرمادي ومنديله الأبيض، رجل يعلوه الوقار وتوشحه الهيبة فطالما أجلستني عنده جدتي لتذهب إلى السوق لتكمل شراء حاجات البيت،
فأبقى أتفحص بناظري أكياس القمح والعدس والحمص، وذاك الكيس الذي اعتادت جدتي أن تزن منه كمية كبيرة من التتن.
تعلن جدتي بدء العمل قائلة:" يلا يمه شدي حيلك خلينا نغزله على البدري"، أمي التي أنهكها موسم الحصاد وخدمة البيت لا حيلة لها إلا تنفيذ الأوامر فتبدأ في غسل الصوف وتنظيفه مما علق به من أشواك وأعواد، وكنت أرقب شفتيها لأفهم ما تتمتم به كلما وخزتها شوكة،
وأحاول أن أعينها ببعض ما أستطيع القيام به مرة طوعا وأخرى كرها، لأني لا أتقن العمل ولكن أحاول أن ألهو.
تتركه يجف تماما ثم تخلطه ببعض شعر الماعز على الكرداش ليصبح كومة من المذيع كلما كبر حجمها أعملت أمي يدها بها في حركة سريعة اعتادت عليها مكونة منها مصيرة، إلى أن تنهي تلك المهمة التي يتخللها أحيانا القيام عدة مرات لأداء أعمال أخرى لا يتقنها أحد في البيت سواها.
ومن هنا تبدأ رحلتي أجوب حارات قريتنا أحمل تلك الكتل الملفوفة بشماغ أحمر مهترئ الأطراف، لم أكتشف سر ثقلها على الرغم من خفة وزن الصوف، إلا بعد أن أرسلتني أمي إلى خالتي أم سالم التي لم تعتد هذا العمل كثيرا فزوجها عسكري وليس لها على عمل الفلاحة كثيرا،
لكنها بحكم عيشها في هذه القرية تتقن الغزل والنسيج وطالما استعانت بها أمي على أعمال أخرى، فما إن رأت الصرة حتى صكت وجهها، وتتاولتها وهي تتمتم بكلمات لا أفهمها لكنها سرعان ما انفرجت أساريرها عن ابتسامة خفيفة عندما وجدت بعضا من رؤوس الجميد قد أخفتها أمي خلسة عن جدتي، فتعلن القبول قائلة: سلمي على أمك...
وتتكرر هذه العملية مع جميع النسوة اللاتي تحملني أمي إليهن رسالة: "تسلم عليك أمي وتقول اغزلي لها هذا".
جدتي تمارس دور الحماة والقائد الخبير في هذا المجال وأمي تمتثل لأوامرها طائعة فعليها إنهاء غزل اللحمة قبل أن تنهي النسوة غزل الصوف، فلا بد من إنجاز العمل بسرعة لأن في ذهن جدتي شيئا آخر هو سر بينها وبين أمي، فكلها أيام تنتهي النسوة ويتم إعادة الغزل على شكل حمول، تقوم جدتي وأمي بسلعها وتعدها على شكل دحاريج كبيرة، كثيرا ما كنت أنوء تحت ثقلها وأنا أحملها بين ذراعي النحيفة إلى أم عوض لتقوم بدهجها مقابل "قولي ليها بتقول لك جدتي ادهجيها وهي تعطيك گروة"، وتحاول جدتي وأمي دهج ما تبقى منها، وقد نقوم نحن بالمهمة فكثيرا ما كنا نقوم بدهج اللُّحمة.
الشمس تتململ في خدرها وجدتي تنكش غليونها بمسمار رُبط بخيط أخضر إلى كيس التتن لتفرغ ما به على تلك الصخرة في ظل الحائط فتعيد تعبئته وهي تجول بناظريها في ذاك الفراغ بين بيتنا وبيت جيراننا ليقع الاختيار عليه مكانا للنول فالشمس تزاور عنه صباحا ومساء فلا حاجة لبناء خيمة تستظل بها النساجات.
ترشه أمي بالماء وتكنسه وتزيل بعض أشواك المرار التي نبتت على مسيل الماء بجانب الحائط.
وفي اليوم التالي تعلن حالة الطوارئ، ففي بيتنا حركة غير معتادة وهو الذي لم يفيعرف الاستقرار يوما فها هي جدتي تعود إلى أوامرها وما علي إلا الانصياع تحت وطأة ذاك الكم الهائل من السباب علي أو الوعد بإعطائي كمية من الخيوط بعد إنهاء النول لأقوم بدوري في صنع نولي الخاص.
وها أنا مرة أخرى أخترق بعض الحارات وما زالت آثار النوم تثقل جفني، لألمح من بعيد عم أمي المتوجه إلى حظيرة أغنامه فتهدأ نفسي لأني أمٌنت المرور بسلام من بين كلاب غنمه فكثيرا ما حاولت نهشي لولا صراخي الذي يملأ الحي فينقذني المارة من أنيابها، لأصل إلى بيت الجدة عيدة التي حال بيني وبين رؤيتها ذاك الباب الذي لم يبق(سطل) إلا تم فتحه وإضافته له ليصعب علي تحريكه لكني سمعتها تقول" من أنت يمه" فأرد عليها وأنا ألمح طرف محرمتها الزرقاء المربوطة على رأسها، يتدلى من تحتها قرنا شعرها الأشيب " جدتي ودها إياكي"،
وبسرعة البرق إلى الجدة أم سالم " جدّه... جدتي ودها إياكي"، مرورا ببعض الجارات مبلّغة الجميع أن مخاض نولنا قد آن وجدتي تريدهن ليشهدن ولادته، جدتي التي حمست قهوتها بنفسها وأعدتها احتراما لمن حضرن لأنهن لسن كبقية النسوة فلهن مكانة تدفع والدي إلى إعداد ذبيحة غداء لهن.
وبعد رحلتي أعود لأجد أمي قد جهزت عدّة النول التي قد تكون استلفت بعضها من بيوت الجيران،
تصل النسوة وتتناول القهوة وبعضا من العنب والتين ورغيفا من الخبز تطلبه الجدة عيده لأنها لم تفك الريق وما أن تنهي الأكل حتى تبدأ بأخذ إحدى دحاريج الغزل لتفك طرف الخيط وتبدأ بقياس طول النول على محيط رأسها ونحن نرقبها بعيوننا حذرين أن ننبس ببنت شفه حتى لا تخطئ في العد.
الشمس تأخذ مكانها في كبد السماء، وأمي تقسم الأعواد على الطرفين وتثبّت الأوتاد وتجهز نيرة النول لتجلس عندها جدتي أم سالم فهي حاذقة في مخالفة الخيوط، وتجلس جدتي عند رأس النول "تردد بعض المَعِيد لا أفهم منه شيئا ولكني أدرك أنها تعبر به عن مشاعر حزينة أخفتها تحت تضاريس وجهها المجعد"،
والجدة عيدة عند طرفه الآخر، ونؤدي نحن الصغار دورنا في حمل دحرجة الغزل جيئة وذهابا بين الجدتين مسرعين في التقاطها من على الأرض، وتحرص جدتي أن تضع نميلة في وسط النول " يا أم سالم توسط النول والا بعده"، " لا تخافي في بالي" وما أن ننهي دحاريج الغزل كلها حتى نشعر بالدوار فنجلس لنشاهد الجدات وهن يبدأن عملية النسج، وإجراء بعض العمليات الأولية واللمسات الفنية التي لا يتقنها أحد سواهن،
فصوت المشقاة أعلن نقطة الانطلاق مخبرا كل أهل الحي أن نول أم عوض تجاوز المخاض.
مهمة شاقة تركن النسوة بعدها إلى استراحة تناول طعام الغداء، نلتهم غداءنا بسرعة ونتسابق إلى امتطاء صهوة النول فيتسامى إلى مسامعنا صوت طرق المشقاة على المنحاز ذاك الصوت الذي كنا نحاول أن تكون طرقاته رتيبة كما هو صوت مشقاة جدتي.