أول إجراء اتخذتُه أو اتخذتْهُ قدمايَ دون استشارتي هو الفرار. نعم فرَّتا بي إلى أبعد قُرنةٍ في البيت! اختبأتُ هناك كما تختبئ صبيَّةٌ شعثاءُ غبراء طرقت الزائراتُ البابَ على أمها فجأة! تختبئ الصبيَّة، لأنه لا يليقُ بالجميلات أن يظهرن إلا في أحلى صورة.. أي بعد تميشطِ الشَّعر، ورشرشةِ العطر، وإحاطةِ الجسم بقماش ثوبٍ هفهافٍ مُزَهزَه.
كنتُ في الوضعِ نفسِهِ تقريباً طرقَ بابَ عمري هذا الضيفُ المسمَّى: عيد الميلاد وأنا أشعثُ أغبر!
حبيبتي رفيقةُ عمري رحلتْ إلى ربها منذ عشرة أشهر، وقد كنتُ أحتفل معها به منذ ٣٣ سنة، بل كانت هي التي تُذكِّرني بعيد ميلادي مع ضحكةٍ سكَّرية، فيبدو رائعاً كقمرٍ من لوز، شهياً كإطلالتها الصباحية، وكأنه يأتي من وجهها لا من الرزنامة!
جلستُ في قُرنة البيت على البلاط، تسرَّبت البرودةُ إلى جسمي، فلم أبالِ! كان قلبي يدقُّ بسرعة كأنني أخاف أن يكتشفَ العيد مكاني، قبَّعةُ الصوف التي أغطي بها رأسي في الشتاء أنزلتُها إلى منتصف وجهي حتى لا يعرفني إنْ دخل!
فجأةً سمعتُ صوتاً أعرفه جيداً، وأحبه جداً يقول لي: - كلَّ عام وأنتَ بخير!
بل سمعتُ زقزقةَ قبلة في الهواء تطير نحوي! كان الصوتُ صوتَها، والقبلةُ منها! زاد ارتباكي، ثم مددتُ يدي إلى الجوَّال في جيبي أسرعتُ إلى قسم الإستديو، أفتحه على صورتها، بدا لي كأنها كانت تنتظرني، وبلا مقدمات قالت بعتب:
- لماذا لا تريد أن تحتفل بعيد ميلادك؟!
- أحتفل به ولستِ معي! كيف؟! كلُّ فرح من بعدكِ يدخل قلبي أشعر أنه خيانةٌ لكِ.. خيانةٌ عظمى.
ضحكتْ كعادتها قبل الكلام، قالت كأنها تُغنِّي:
- أيها الخائن الجميل، أنا متُّ ولم أمت، رحلتْ مني غلالتي الخارجية فقط، أعني: جسدي، لكنني مازلتُ موجودةً فيك. ألا تدري أنَّ أعظمَ حياةٍ وأعمقَها أن تعيشَ في قلب؟ أن تسكن في دنيا الروح مع الخلجات والارتعاشات، في ذلك الفردوس الأعظم، والملكوتِ الأطهر.
ثمَّ جرى أمرٌ غريب أو في غاية الغرابة: غادرت الحبيبةُ موقعَها، صارت أمامي من لحم ودم، مدَّت يدَها سحبتني من قُرنتي، فتحتْ ستارةَ النافذة، قالت:
- سأذهب لأعدَّ لك القهوة.
وقبل مسيرها نحو المطبخ أضافت:
- اليوم في مرقدي كنتُ سعيدةً جداً، وقد أخبرتُ الجميعَ في المراقد المجاورة بأنه عيد ميلادك، ابتهجوا، وكثيرون منهم طلبوا عنوانك، وقد تصلك منهم بعضُ رسائل التهنئة.
وبالفعل رسائلُ مليئةٌ بالمباركات تنهمر عليَّ في هذا اليوم، أعرف بعضَ أصحابها، وبعضهم لا أعرفه!
*
(١) كورونا: مرض خطير انتشر في أنحاء العالم في مطلع عام ٢٠٢٠ ، فألزم الناسَ بيوتَهم.
ابتسمي من فضلك
أبيات
نجيب كيَّالي
يا حلوةَ القسَمَاتِ في وجهي ابسِمي
أحلى من الإصباح أن تتبسَّمي
أحلى من الشُّرفاتِ تلمع في الضُّحى
من لوحةٍ مرسومةٍ بالأنجمِ
أشهى من الشَّلال يرسل فضةً
ويجود للدنيا بعذب ترنُّمِ
كالياسمينِ لكِ ابتسامٌ ساحرٌ
كلا ابتسامُكِ ذو البهاءِ الأعظمِ
لو تبسمينَ مسحتِ لونَ سحابةٍ
سوداءَ موحشةٍ تُخيِّمُ في دمي
وأزلتِ عن روحي غباراً قاسياً
تركته حربُ طوائفٍ، وتقسُّمِ(١)
خوفٌ ونارٌ أصبحا ملءَ الحَشَا
ماعدتُ أعرفُ كيف مني أحتمي؟!
لو تبسمينَ فتحتِ لي بابَ المُنى
بضياءِ ثغرٍ شاعريّ مُلهِمِ
أنا نازحٌ حزني ورائي.. في الخُطا
في لفتتي، في نظرتي وتكلُّمي
أنا ظامئٌ قلبي تشقَّقَ لهفةً
وعلى الرصيف نُثَارةٌ من أعظُمي
هاتي من الثَّغرِ الجميلِ هديةً
أشهى الهدايا بسمةٌ ملءَ الفمِ
*
(١) هي الحرب الداخلية في سوريا، وقد بدأت بمظاهرات العام ٢٠١١، ثم انقلبت إلى حرب وحشية.
كما نشر الاديب الكيالي على منصة السلع قصته التالية عن "الجوهرة"
أرسلتْ جوهرةٌ إشعاعَها إلى قلب رجل.
كان بينه وبينها بحرانِ وبرَّان.
خاضَ البحرين، قطعَ البرَّين.
وعلى مقربة من مكانها هاجمَتْه الريح التي تقوم بحراستها.
ضربت الريحُ ذراعَهُ، كسرَتْها، فتابع السَّيرَ إلى جوهرته بذراعٍ مكسورة!
هاجمَتْه مرةً ثانية بوحشيَّة، فشقَّتْ صدرَهُ، ومزقتْ لحمَهُ، وضربتْ بالصخر هيكلَهُ العظميّ، فتحطمتْ منه الأجزاءُ العُلويةُ والفخذان!
بقيَ من الرجل ساقاه، تابعت السَّاقان السَّيرَ نحو الجوهرة!