ثلاثة لا تنسى: الجوع، والفقر، والفقد!! قبل أكثر من أربعين فقرا!! أتذكرها جيدا، كانت علامات الشبع فيهن أن تسمع عراك الأمعاء عند أول ضرس من علكة البطم، حيث الزبد يحوقل في جوف خال حتى من فتات (المطاطي)!!! الأمر لم يكن مقصورا علينا فحسب، بل إن العربان كانت لا تفكر في شيء، سوى موعد المعونة!! ولا فرحة تعدل تلك الليلة التي ينادي فيها المنادي:
" يا ناس... يا هيه... يا عرب!! بكرة في معونة "
السامر وملح البارود وزغاريد النساء لا واني لها! الفرح يدب في العربان كسيل جارف، لا يعبأ بشيء في طريقه... غدا موعدنا مع قتل الجوع... عشرون يوما وأنا أتلوى تحت شجرة بطم أمضع صمغها، وأبحث عن (جخادم) في قشورها؛ حتى أقاربها بالجراد وأستحل لنفسي فتوى بأكلها!! لكن دون جدوى، ونفسي تعاف الخنافس؛ فلا أقربها!!!
النساء جهَّزن الأكياس للمعونة، وزوجتي خاطت لي (خُرجا) لو امتلأ لعجزت عنه (الحمير)! ولأنه الجوع والفقر غفوت قبيل الفجر و(الخُرج) تحت رأسي...
ومع فَجَّة الضو كنت أول الواصلين إلى مكان التوزيع... انتظرت العرب ثلاث ساعات حتى جاءت السيارة محملة بالجنة، فالعهد بيننا وبينها بعيد!! بعيد جدا...
عملية التوزيع كانت بطيئة جدا، وصدق فيهم المثل: (الشبعان بفت للجعان فت من بطى!!) تناولت حصتي من الطحين، والسمنة التي تعافها الكلاب، وشيء من السكر والشاي، وقليل من الفول، وقطعتين من جلد لم أر لهما شبيها من قبل!!
عدت مسرعا إلى زوجتي وأطفالي أحمل معي الحياة، وأخبئ تحت إبطي قطعتين من جلد سلبا تفكيري في كيفية صنع حذاء لي منهما... حتى أنني قررت إخفاؤهما عن زوجتي؛ لأجعلها مفاجأة لها! وأنا الطاعم الكاسي!!
أوصلت الحياة إلى زغب الحواصل، وما هي إلا لحظات حتى كانت رائحة المطاطي تسري حتى في أوردة الكلاب!! لهمت ما لهمت وانزويت بعيدا عن أهلي أبحث عن لفة شعر؛ لأخيط نعلا يمنع العناكب أن تعشش في سراديب أقدامي!!
ثقبت القطعتين ستة ثقوب، في كل قطعة ثلاثة ثقوب، واحد عن اليمن، وآخر عن الشمال، والثالث كان في المقدمة؛ وحتى لا يبلى الحذاء سريعا، جعلت كل خيط على أربع لفات محكمات!!
كانت سعادتي غامرة وأنا أنظر النعل!! قلَّبته أكثر من عشرين مرة، وأنا فرح مسرور مشدوه به!! فعلمي بالنعال قبل أكثر من سبع سنوات... وكانت (حذوة أم إعوينة) وجدتها على منازل العربان، واستصلحتها بعد أن أكل الدهر عليها وشرب!!
لبست مداسي الجديد وخطوت الخطوة الأولى والثانية متوجها إلى زوجتي، وقبل أن أرفع قدمي اليمنى لأخطو الثالثة كنت حافي القدمين!! أمسكت الحذاء وتفحصته جيدا، لأجد أن هذه القطع رديئة ولا تصلح كنعال!
في العرب رجل كبير السن تبدو عليه علامات النعمة قبل أن يأتي إلى بلاد الفقر... قصصت عليه القصة وعرضت عليه الحذاء... أشعل (هيشية) ونظر إليَّ_مكشرا عن ثنية ذهب_ ثم بسق عن شماله وقال:
"هذا سمك مجفف يا هبيلة... مو حذوة! "
أردت أن أن أتدارك الموقف فرددت عليه:
" أنا بعرف إنه سمك مجفف... بس قلت بلكي بزبط يصير حذوة"
غادرته وهو يملأ الأرض بصاقا! لست أدري أكان عليَّ البصاق أم بسبب الهيشي!!