السردية الأردنية… رحلة وطن وُلد من قلب العواصف وصاغ هويته بيديه

{title}
راصد الإخباري -




يشهد الأردن اليوم لحظة وطنية لافتة مع إطلاق سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني لمشروع تثبيت السردية الأردنية، وهي مبادرة تعيد الاعتبار لقصة هذا الوطن كما عاشها أبناؤه، لا كما تُروى عنه. 

فالأردن لم يولد في ظروف مستقرة أو رفاه سياسي، بل خرج إلى الوجود في عشرينيات القرن الماضي وسط فراغ إقليمي كبير وانهيار امبراطوريات وصعود قوى استعمارية تعيد رسم خرائط المنطقة على مقاسات المصالح الدولية.

عندما انهارت الدولة العثمانية وبدأت المنطقة تتخبط تحت إرث الحرب العالمية الأولى، وفي ظل وعد بلفور وتقسيمات سايكس–بيكو، كان الأردن في قلب العاصفة. 

ومع ذلك، اختار أن ينهض مشروعًا عربيًا أصيلًا يستند إلى قيم الثورة العربية الكبرى وأحلام النهضة والوحدة.

 ومن تلك اللحظة، وجد نفسه على تماسّ مباشر مع أهم أحداث القرن العشرين: حروب 1948 و1967 و1973، تبعات غزو الكويت، الحروب المتتالية في العراق، والأزمة السورية، وما رافق ذلك من موجات نزوح لم تعرف المنطقة مثيلًا لها.

ورغم شح الموارد وضيق الإمكانات، لم يغلق الأردن حدوده في وجه الملهوفين.

 استقبل الفلسطيني والسوري والعراقي واليمني وغيرهم، وفتح لهم المدارس والمستشفيات وفرص الحياة.

 وبات اليوم الدولة الأولى عالميًا في استضافة اللاجئين نسبةً إلى عدد السكان. 

ومع كل موجة لجوء جديدة، لم تهتز هوية الأردن، بل ازدادت رسوخًا، وأكدت أن هذا البلد الصغير بحجمه كبير برسالته، وأن قيم "المهاجرين والأنصار” ليست شعارًا بل ممارسة يومية.

إن دعوة سمو ولي العهد لتوثيق السردية الأردنية تأتي في وقت تتعرض فيه الذاكرة العربية لحملات تشويه وانتقاء وتغيير مقصود.

 فالتاريخ الذي لا يوثَّق يكتبه الآخرون، وربما يحرّفونه. 

ولهذا فإن توثيق السردية الأردنية يمثل ضرورة وطنية تضمن أن تُروى قصة الدولة الأردنية كما هي: قصة نهوض من بين الركام، وصمود في وجه الحروب، وقدرة على تحويل التحديات إلى فرص للحفاظ على الاستقرار والأمن والإرث العربي.

السردية الأردنية ليست تبريرًا ولا دفاعًا، بل هي شهادة وطن على نفسه.

 هي الحكاية الحقيقية التي تُبرز كيف صمد الأردن رغم موقعه الحساس، وكيف حافظ على تماسكه رغم تغيّر الديمغرافيا المحيطة به، وكيف بقي وفيًا لرسالته العربية والإنسانية رغم الضغوط السياسية والاقتصادية. إنها حكاية أردنيين صاغوا دولتهم بعرقهم، وبنوا مؤسساتهم على قيم الشرف والواجب والانتماء.

الأردن اليوم، وهو يعيد توثيق حكايته، يثبت مرة أخرى أنه شجرة طيبة جذورها ضاربة في الثورة العربية الكبرى، وفروعها تمتد في كل بيت أردني وفي كل قلب لجوء وجد الأمان هنا. 

هذه السردية ليست مشروعًا أكاديميًا فحسب، بل مشروع وعي، ورسالة للأجيال الجديدة ليعرفوا أن وطنهم لم يُبنَ بسهولة، ولم يأتِ جاهزًا، بل صُنع بالتضحيات والمحن والإصرار.

إن تثبيت السردية الأردنية هو تثبيت لمكان الأردن في المنطقة، ولدوره الذي تجاوز الجغرافيا ليصبح نموذجًا للدولة التي تحمي ولا تعتدي، وتستقبل ولا تطرد، وتبني رغم كل التحديات. 

إنه إعلان أن الأردن — الذي وُلد من رحم الصراعات — لم يكن يومًا دولة عابرة، بل مشروعًا عربيًا متجددًا، قويًا بمؤسساته، ثابتًا بمبادئه، وشامخًا بدوره الذي لم يتراجع يومًا أمام مسؤولياته تجاه أمته والإنسانية جمعاء.

بقلم : النائب فراس القبلان