بمناسبة مرور مئة عام على ولادة العالم الجليل الراحل الأستاذ الدكتور عبدالكريم خليفة رئيس المجمع الأسبق، عقد مجمع اللغة العربية الأردني في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد الموافق للثاني والعشرين من كانون الأول لعام ٢٠٢٤م، ندوةً علميةً لإشهار كتاب "عبد الكريم خليفة ومنهجه في تحقيق التراث العربي الإسلامي" لمؤلفه عضو المجمع الأستاذ الدكتور سمير الدروبي، بحضور دولة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عبدالله النسور، ورئيس المجمع الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت، ونائبه الأستاذ الدكتور إبراهيم بدران وعدد من أعضاء المجمع، ونخبة من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين والمختصين، وجمهورٍ غفيرٍ من الحاضرين.
استهلت الندوة التي أدارها عضو المجمع الأستاذ الدكتور إبراهيم السعافين بكلمة أشاد فيها بمناقب الدكتور خليفة التي تجمع بين السماحة والحزم، وبدوره في إنجاز عدد كبير من المشروعات المهمّة التي توّجت بحصول المجمع على جائزة الملك فيصل العالمية.
وألقى الأستاذ رئيس المجمع كلمةً رحّب فيها بالضيوف، كلٌّ باسمه ولقبه، وأشار إلى بدايات معرفته بالدكتور عبدالكريم خليفة، قائلًا: "سمعت الكثير عن الدكتور عبدالكريم خليفة، وأنه درس في دار المعلمين ببغداد ثم تابع دراسته في فرنسا قبل أن أراه في سنة 1958م، عندما دخل علينا في حصة اللغة العربية وكان يدرّسها الأستاذ الكبير المرحوم لطفي عثمان وكان الدكتور خليفة آنذاك يعمل مفتشاً للغة العربية في وزارة التربية والتعليم، والتقيتُ به في سنة 1966م، عندما عدتُ من الجامعة الأمريكية ببيروت بناءً على إلحاح من المرحوم الدكتور مصطفى خليفة عضو مجلس أمناء الجامعة الأردنية آنذاك؛ وذلك للعمل بالجامعة الأردنية، إذ بعدها عُين رئيساً للجامعة الأردنية 1968-1971م، في تلك المرحلة العصيبة التي مرّت بها البلاد".
وأضاف الدكتور البخيت واصفًا المرحلة التي تولّى فيها الدكتور خليفة رئاسة قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأردنية، ومن بعدها رئاسة المجمع قائلًا: " وعندما تولّى الأستاذ الدكتور عبدالسلام المجالي رئاسة الجامعة عاد الدكتور خليفة لرئاسة قسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة، دون تأفف وتضجر وكنت أراه يتابع خطوات تسجيل الطلاب بالقسم وتجلى عطاؤه الكبير في عنايته بطلاب القسم وبخاصة طلاب الدراسات العليا، وكان القسم آنذاك يضم نخبةً متميزةً من أساتذة العالم العربي من أمثال شوقي ضيف، وسامي الدهان ويحيى حقي وآخرين من أفاضل العلماء العرب.
وتابع واصفًا عطاءه العلمي المشهود له في تطوير المجمع: " كان الدكتور خليفة وإخوانه الذين تخرجوا في مدرسة السلط المشهورة من العصاميين الذين شقّوا طريقهم إلى الأمام، وكان مع مجموعة من زملائه قد شاركوا في لجنة التعريب التي كانت النواة الأولى لتشكيل مجمع اللغة العربية الأردني. ونهض بهذه المهمة الجليلة مع زملائه في بناء المقر على قطعة أرض تبرعت بها الجامعة الأردنية مشكورة، وشُكّلت اللجان وصدر قانون المجمع وتعليماته، يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: }مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا { الأحزاب:23
ونذكر هنا المؤسسين الأوائل: محمود إبراهيم، ومحمود السمرة، وعيسى الناعوري، وإسحق الفرحان، وذوقان الهنداوي، وعبد الكريم غرايبة، وناصر الدين الأسد، وعبد اللطيف عربيات، رحمهم الله جميعاً ورحم من غادرونا بعد مسيرة حافلة بالعطاء.
ومضى المجمع إلى الأمام ليصل إلى ما وصل إليه اليوم من إنجازات على مستوى عمل اللجان ومنشورات المجمع والتعاون مع الأشقاء في المجامع العربية سواء من خلال اتحاد المجامع العربية أو مع المؤسسات الدولية. وفي ختام كلمته شكر الدكتور البخيت كلًّا من الأستاذ الدكتور سمير الدروبي على تأليفه لهذا الكتاب القيّم، ولكريمة الدكتور خليفة الدكتورة ليلى التي وفّرت ما لديها من وثائق وصور عن والدها رحمه الله، ولرئيس الجلسة، ولجميع الأساتذة المشاركين في تقديم شهاداتهم عن الدكتور خليفة.
وابتدأت الندوة التي تحمل عنوان: "الحاضر الغائب في مئويته" بشهادة أولى المشاركين فيها، الأستاذ الدكتور همام غصيب، عضو المجمع العامل، التي استذكر فيها روح الفقيد الزكية، التي ما تزال ترفرف في سماء المجمع، مؤكّدًا حرص الجميع على بذل قصارى الجهد للارتقاء بالعربية إلى مستواها السامق.
ثم تحدّث الدكتور غصيب عن محورين متداخلين، الأول عن الدكتور خليفة الرئيس المؤسس لمجمع اللغة العربية الأردني وقائد مسيرته على مدى تسعة وثلاثين عامًا، ومنهجه في تحقيق التراث العربي الإسلامي، وإنجازاته في مجالات أخرى، تجتمع كلها تحت خيمة واحدة عنوانها العريض: "سدانة اللغة العربية"، والمحور الثاني هو عن مزايا كتاب الدكتور الدروبي شكلًا ومحتوًى، وسجاياه التي وصفها بقوله: " فما فتىء منذ بضعِ سنين يُخطّطُ ويُنقّبُ ويُوثّق ويكتب بغزارة ويَنشر عن مجامع دمشق وعمّان منذ نشأتِها، مُتوصّلاً إلى معلوماتٍ أشبه بالكشوفات العلميّة عن "المجمع العلميّ العربيّ في الشرق" [أي مَجْمع عمّان (١٩٢٣-١٩٢٦م)] تحديدًا.
ثم أشار في نهاية حديثه إلى أنّ الدروبي يعكف حاليًا على إصدار كتاب آخَرَ عن إنجازات الرئيسِ المُؤسّس، بدعمٍ من رئيسِ المجمع.
وفي ثاني شهادات الندوة كشف الأستاذ الدكتور فايز القيسي، أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة، ورئيس هيئة تحرير المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، عن عمل الدكتور سمير الدروبي في كتابه الذي يقوم على الاحتفاء بالمغفور له الدكتور خليفة الذي جاء على حد قوله ثمرةً يانعةً من ثمار وفاء الدكتور الدروبي لخليفة.
وأضاف: "جاء إصدار هذا الكتاب استكمالًا لسلسلة من الكتب والدراسات والأبحاث التي أنجزها الدروبي في فترات متباعدة، واهتم فيها بالتأريخ للمؤسسات العلمية في الأردن، كالمدارس ومركز الوثائق والمخطوطات، والمجمع العلمي العربي في الشرق، والحديث عن حيوات رجال النهضة والفكر الذين قاموا على إنشاء تلك المراكز والمجامع في وطننا العزيز، أو عملوا فيها وأسهموا في استواء عودها حتى أينعت وغدت منارات باسقة في عطائها على المستويات الوطنية والعربية والدولية، ومن بينهم حسن البرقاوي ونوفان السواريه ويوسف بكار ومحمد عدنان البخيت وغيرهم".
ثم بيّن الدكتور القيسي أنّ العمل العلمي الذي قدّمه الدروبي كشف عن المنحى الذي انتهجه الدكتور خليفة في تحقيق كتبه في النحو العربي، فقال: "مال خليفة في مشروعه الفكري إلى تبنّي تيسير النحو العربي أمام طلبة العلم على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم، ويبدو لي أنه كان قد اعتمد في ذلك على تجربة الأندلسيين في تعليم العربية لأبنائهم، فبدأ جهوده بتحقيق كتاب" الواضح في علم العربية " لأبي بكر الزّبيدي الإشبيلي الأندلسي النحوي المتوفى سنة تسع وسبعين وثلاثمئة للهجرة الذي كان غرضه من تأليفه تربويًا تعليميًا".
وعن كتاب الدروبي قدّم الأستاذ الدكتور محمد ناجي عمايرة، أمين عام وزارة الثقافة سابقًا ملخصًا وافيًا عمّا اشتمل عليه الكتاب من دراسة تناولت في المقدمة السيرة الذاتية للدكتور خليفة، والمنهجية التي اتبعها في تحقيق التراث العربي الإسلامي من خلال تحقيق كتاب أبي ذر الخشني "الإملاء المختصر"، ومسوغاته ومبرراته لإعادة تحقيق الكتاب، واختيار الأصل الخطي المعتمد في التحقيق، ومن ثمّ الجهود التي بذلها لتحقيق المتن، والدراسة العلمية والفهارس الفنية للكتاب، وأخيرًا عرض النتائج التي توصل إليها، وملاحق الكتاب التي تضمّنت دراسات منشورة سابقًا عن ثلاثة أيضًا من الأساتذة المتخصصين، وهم الأساتذة: يوسف بكار، وصلاح جرار، وهمام غصيب.
وعن رأيه في الدراسات السابقة قال الدكتور العمايرة: "هي كلها دراسات نوعيّة حملت آراء أصحابها في جهود خليفة الكبيرة في مجمع اللغة العربية وتحقيق التراث العربي الإسلامي، وأرى أن إضافتها إلى كتاب الدكتور الدروبي تأتي تقديرًا لآراء أصحابها، ومدى تأثرهم بأستاذنا الجليل، ولا شكّ في أنّ هذا الجهد الكبير الذي بذله المؤلف الدكتور الدروبي يعطينا مؤشرات واضحة على قدرته البحثيّة، وتمكّنه من الوصول إلى الغاية الأساسيّة من وراءهذا البحث العلمي المتميز.
ثم اختتمت الندوة بشهادة الدكتورة نهى خليفة، أستاذة الأدب العربي في جامعة لندن سابقًا، حيث قدمت تقريظًا لكتاب الدكتور الدروبي، عرضت فيه ملخّصًا وافيًا لأبرز الفصول والأبواب التي تناولها الكتاب، وعن ذكرياتها مع الوالد حين كانت محرّرةً لمجلة المجمع، فقالت: " كانت أيام المجمع مشرقة بشموسه المتألقة؛ بعلمائه الأجلاء، فكانت له صباحات مبتسمة مستبشرة باجتماعاتهم فيها، وكانت هنالك أيام يسكن فيها العصر إليهم متأنياً مطمئناً، يستمع إلى أحاديثهم إلى حين حلول المساء، فتتسابق نسائمه لتحيتهم. حقًا لقد كان عمل أبي وأعضاء المجمع الأفاضل مضنيًا والأعضاء عليهم كثيرة، والتحديات كبيرة والمسؤولية عظيمة، وكان للمجمع مواسم ثقافية تنتظر السحب الثقال المقبلة من كل حدب وصوب من وطننا العربي لينهمر غيث العلم على قلوبنا فكأن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ-رحمه الله يصفنا بقوله:
"فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة".
وتابعت وصفها قائلةً: "كان المجمع وما زال قمرًا ينير ظلام التغريب الدامس؛ فعلماؤه هم فرسان اللغة الذين ينافحون عنها ويدافعون عن حياضها، ويجاهدون في سبيل تعريب العلوم وإعلاء شأن لسان الضاد، لغة القرآن الكريم، وهم المنارة التي تهدي الغارقين في بحور التغريب إلى شاطئ الأمان، شاطئ لغتهم العربية التي هي عنوان هويتهم وفخرهم وثقتهم بأنفسهم".
وتقدّمت بالشكر للأساتذة العلماء أعضاء المجمع الذين أسهموا مع والدها في بناء مسيرة المجمع العلمية، الحافلة بمحطات العطاء في التأليف والترجمة والتعريب.