قال تعالى : "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ"

{title}
راصد الإخباري -


**{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ}**
[التكوير: 14]

بقلم:  أ.د. فواز عبدالحق الزبون

.. كلمة "أحضرت"... كانت هي المفتاح الذي فتح لي عالمًا كاملاً لم أكن أراه، مفتاحًا غيّر نظرتي لمفهوم العمل والزمن والآخرة. 

.. كثيرا ما كنت أقرأ سورة التكوير، وأَمرّ بتلك المشاهد الكونية المهيبة، من تكوير الشمس وانكدار النجوم، وسير الجبال، لكنني كنت أقفز بذهني سريعًا إلى الهول العام، غافلاً عن الدقة المرعبة في اختيار هذا الفعل بالتحديد: "أحضرت"، وليس "عملت" أو "كسبت" أو "فعلت".

.. لماذا اختار الله هذا اللفظ؟
- وكأن الآية تخبرني أن أعمالي ليست مجرد أحداث عابرة تذوب في نهر الزمن، بل هي "أمتعة" و"حقائب" أحزمها الآن، أحملها على ظهري، وأُحضرها معي شخصيًا إلى ذلك الموقف العظيم، فلا حقائب تُفقد في مطار الآخرة، ولا أمتعة تضل طريقها.

.. لقد عشت لحظة اكتشاف هزت كياني حين أدركت التناسب العكسي المذهل بين دمار الكون وبقاء العمل؛
- فالسورة تبدأ باثني عشر حدثًا كونيًا مدمرًا، حيث الشمس -ذلك الجرم الهائل- تُلف ويذهب ضوؤها، والجبال الرواسي تُنسف وتُسيّر، والبحار تتفجر نارًا، والنجوم تتناثر. 
- كل هذه الثوابت الفيزيائية العملاقة تفنى وتتغير، ولكن وسط هذا الدمار الشامل، يبقى شيء واحد فقط لا يتبدد ولا يغيب: "ما أحضرت".! 
- إنها لطيفة مدهشة تخبرك أن عملك، ولو كان مثقال ذرة، هو أقوى وجودًا من الجبال، وأكثر ثباتًا من النجوم؛ فالنجوم تنكدر، وعملك يحضر! 
- هذا التقابل العجيب بين فناء الأكوان وبقاء الأعمال يضع الإنسان أمام حقيقة مرعبة: أنت الكائن الذي سيحتفظ "بأشيائه" حين يفقد الكون كل شيء.

.. ثم تأملت في طول الانتظار البلاغي في السورة؛ اثنتا عشرة جملة شرطية متتالية (إذا.. وإذا.. وإذا..) تحبس أنفاسك وأنت تقرأ، تترقب الجواب: ماذا سيحدث بعد كل هذا الانقلاب الكوني؟! 
- ليأتي الجواب كطلقة مسددة نحو القلب مباشرة: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ}.
-  لم يقل "حُوسبت نفس" أو "عُذبت"، بل "عَلِمَتْ". وهنا تكمن لطيفة نفسية عميقة؛ فالعلم هنا ليس مجرد تذكر، بل هو "الإدراك اليقيني الكامل" لحقيقة ما معك.
-   في الدنيا، قد ننسى نوايانا، قد نخدع أنفسنا بمبررات واهية، قد نسمي البخل حرصًا والجبن حكمة، لكن هناك، في لحظة "العلم" تلك، تسقط الأقنعة، وترى النفس بضاعتها التي أحضرتها على حقيقتها المجردة، دون أغلفة تجميلية.
-    إنه علم "المواجهة" الذي لا مهرب منه.

.. ومن اللطائف التي استوقفتني طويلاً، ذلك التنكير المؤثر في كلمة "نَفْسٌ". 
- لم يقل "النفوس" بالجمع، ولا "الإنسان" بالتعريف، بل "نفسٌ" نكرة في سياق الإثبات الذي يفيد هنا استغراق كل نفس على حدة، وكأنها تشير إلى "الوحدة المطلقة".
-  في ذلك اليوم، تتلاشى القبيلة، وتختفي الجماعة، ولا يبقى إلا "أنت" و"ما أحضرت". 
-  ستكون وحيدًا تمامًا مع حقيبتك. 
-  هذا التنكير يخلع عنك رداء الانتماء الجماعي الذي كنت تحتمي به في الدنيا، فلا "نحن" هناك، بل "أنا" فقط، وما في يدي.

.. لقد قادني تأمل كلمة "أحضرت" إلى معنى "التجسيد"
 فالأعمال المعنوية في الدنيا (صلاة، كذبة، صدقة، غيبة) تتحول هناك إلى "أعيان" و"ذوات" حاضرة.
- أنت لا تأتي بمجرد "ذكريات"، بل تأتي ك "حقائق متجسدة".. 
- هذا المعنى يتوافق مع آيات أخرى مثل {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}. تخيلتُ نفسي وأنا أدخل ذلك المشهد، لا أحمل مالاً ولا جاهًا، بل أحمل "كلماتي" التي قلتها، و"نظراتي" التي أطلقتها، قد تحولت إلى أحمال مادية أراها رأي العين. 
- إن الانتقال من "العمل" المجرد إلى "الإحضار" المحسوس يجعل المسؤولية أثقل؛ فأنت لم تفعل الفعل ومضى، بل أنت "صنعته" وحملته معك لتضعه اليوم أمامك.

.. ومن عجائب البلاغة في هذه الآية، أن "الإحضار" يفيد العناية والاهتمام والجهد؛ فنحن في الدنيا نقول "أحضرتُ الهدية" أو "أحضرتُ الوثائق"، ولا نستخدم هذا اللفظ إلا مع الأشياء التي حرصنا على نقلها.
- فيا للسخرية الموجعة! 
- نحن نقضي أعمارنا "نُحضر" الأشياء إلى بيوتنا الدنيوية: نُحضر الأثاث الفاخر، والشهادات، والملابس، لكننا يوم القيامة نكتشف أن كل ما أحضرناه للدنيا تُرِكَ فيها، وأن ما أحضرناه معنا حقًا هو ما كنا نظن أنه مجرد كلمات وأفعال عابرة.
-  الآية تقلب مفهوم "الملكية" رأسًا على عقب: أنت لا تملك ما جمعت، أنت تملك ما فعلت.

.. ختامًا، لقد غيرت هذه الومضة علاقتي باللحظة الحاضرة. 
- صرتُ كلما هممت بكلمة أو فعل، أسأل نفسي: "هل أريد أن (أُحضر) هذا الشيء معي؟". 
- هل يُسعدني أن أفتح حقيبتي يوم تنكدر النجوم، فأجد هذا الشيء بداخلها؟. 
- إنّ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} ليست مجرد إخبار عن المستقبل، بل هي دعوة عاجلة لفرز الأمتعة الآن، قبل أن يُغلق باب الطائرة، وتقلع بنا الرحلة إلى حيث لا يمكن ترك الحقائب ولا استبدالها، وحيث نكون نحن وما أحضرنا.. وجهًا لوجه.

#د_أسامة_محمد 
#القرآن_وقفات_ومعان 
هذا المقال - مقال تدبري للآية - وليس تفسيرا مباشرا لها، ويستند استنادا مباشرا لكتب التفسير المعتمدة .