آخر الأخبار

أستاذة اللغات والآثار والاثار القديمة على منصة السلع

راصد الإخباري :  

الانتهاء من إشكالية اختراع الكتابة الأبجدية

▪الدكتورة فيفيان حنّا الشويري
أستاذة الآثار والاثار القديمة في الجامعة اللبنانية


 يُردّد المثل الشعبي آلاف المرّات "اعطي الخبز لخبازه ولو أكل نصو"، فعلى ما يبدو أنه سيزداد ولن ينقص لأن صاحب المهنة لن يفرّط بصنعته احتراماً وحرصاً على سمعته؛

 وتكثر سلسلة المآثر التي تتردّد منذ مئات السنين، ولكن هل استُوعِبت مكنوناتُها أم أنها مجرّد محط كلام ببغائي؟

  ونحن إذ نستهل طرحنا بهذا التلميح فلاستنكارنا الوضع الحاصل في يومنا من التعدّي على الاختصاصات والفلتان المحدق الذي أصاب العلم وتطفّل من لا شان له به وتعاطيه الأرعن معه، ما يزيد البلبلة بلبلة والتشويه تشويهاً والجهل جهلاَ؛

 وإن سهولة النقل والترداد على المواقع الإلكترونية بسرعة الصاروخ لكفيلة أن تلغي الصحيح لصالح الخطأ.     ونحن أصحاب الاختصاص ترانا الأكثر ألماً وتضرّراً من هذا التعدّي،

 فالعلم غدا بنظر البعض وجهة نظر ورأي وحسب، والعلماء مهمّشون لصالح المجمّعين والنقلة، "فرحم الله امريء عرف قدره فوقف عنده"! 

 والأخطر هو التوظيف الإيديولوجي والسياسي والعرقي المتطرّف للمعلومة التاريخية، فكلّ يتناولها بما يخدم أهواءه ويستغلها لدعم وجهة نظره المجزِّأة، لأنه يرفض كليّات الأمور، جغرافياً، ثقافياً، ولغوياً، ووطنياً،

 والحضارة العربية العريقة ليست سوى كلّ ولا تعرف التجزئة مطلقاً، فهي حلقة متواصلة تاريخياً ومترابطة العناصر وهي وحدة متينة كالبنيان المرصوص ولا يمكن فكهّا كما يشاء كلّ من يشاء ومتى يشاء، وإلا تفرط حبّات العقد وتضيع قيمته.

 وبما يختص اختراع الأبجدية، فالتشويه الفاضح أضحى آفة عظمى، نختصرها بالنقاط الآتية تصحيفاً وتصويباً، ومنهجياً:

أولاً: جغرافيا المشرق العربي أو المشرق القديم (Le Levant) وحدة لا تنفصل ولا تحدّها حدود فاصلة وهي متنوّعة الأقاليم، وللاستزادة يمكن العودة للإخباريين العرب وتحديداً الى الهمداني وكتابه "صفة جزيرة العرب".

ثانياً: تاريخ الحضارة العربية سلسلة متصلة غير منقطعة منذ السومريين (5000 ق.م)، مروراً بالبابليين والآكديين والأشوريين والسريانيين حتى العرب الحاليين.

ثالثاً: المشرق القديم مهد الحضارة وهذا يعني أنه أصل المدنيّة والعمران والصناعات والفنون والثقافة والتشريعات والفكر... 

رابعاً: اختراع الكتابة هو الإنجاز الأبرز إطلاقاً ونقطة التحوّل المركزية في الحضارة المشرقية العربية القديمة، ومع مرحلة التدوين، ندخل الحقبات التاريخية  أو مرحلة التاريخ (Histoire)؛ وأولى الشواهد عن الكتابة (  350ق.م )  تبدأ مع الكتابة التصويرية  ( pictographique / hiéroglyphique) في عيلام (بلاد ما بين النهرين)؛ مصر (وادي النيل)؛ جبيل (فينيقيا- الساحل السوري)؛ ثم مع الكتابة المقطعية المسمارية ( syllabique  )(3000-2000 ق.م) (سومر- بابل- أكد- أشور- ماري-إيبلا-الجزيرة السورية)؛ تليهما المرحلة الانتقالية  ( période intermédiaire) (1500 ق.م) مع أبجدية أوغاريت (رأس شمرا على الساحل السوري؛ حتى الكتابة الأبجدية الجبيلية ( alphabétique/ phonétique) ( 1200 ق.م) (جبيل-بيبلوس على الساحل السوري).

   بالعودة الى طرحنا الأساسي في هذه الورقة ألا وهو الكتابة الأبجدية والتي لا يمكن الولوج اليها إلا عبر هذا العرض المقتضب والسريع لمراحل تطور الكتابة، واستناداً الى أن لا شيء يخلق من عدم، بل أن كلّ شيء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما سبقه والذي هو سبب حدوثه، نصل ومن خلال التحليل المنهجي المبني على المعطيات العلمية والشواهد الأثرية الى الآتي:

أولاً: النظام الكتابي التصويري الهيروغليفي المصري القديم، يتضمّن نظام كتابة الرمز الصوتي الثابت (alphabet)، ما خوّل الباحث اللغوي الفرنسي ( Jean-Francois Champollion) فكّ رموز الهيروغليفية، بالاستناد سرّاً على أعمال ابن وحشية النبطي، وبالاستعانة باللغة القبطية المصرية كأساس مساعد للترجمة. ما يعني أن الأبجدية معروفة منذ الكتابة التصويرية ولكن على غير ترتيب (أبجد هوز...) وكذلك لم تتخل التصويرية المصرية بتاتاً عن الصورة طيلة تاريخها.

ثانياً: عرفت أوغاريت الكتابة المقطعية المسمارية في مرحلتها الأخيرة والتي تعرف بالأكدية، والتي عمّ استعمالها كلغة وكتابة (Lingua Franca)، استخدمت في كلّ المشرق القديم طيلة الألف الثاني قبل الميلاد. وأهم الشواهد عنها (رسائل تل العمارنة-مصر)، وهي مراسلات بين ملوك مصر وحكّام المشرّق القديم.

ثالثاً: دلّت الشواهد الكتابية والتي نُقشت على الألواح الأجرّية وحُفظت في مكتبة القصر الملكي في أوغاريت، ومع مقارنتها مع لوحات أخرى نُقشت أيضاً بالقلم المسماري، أن ثمّة فرق كبير بن المجموعتين، فالأقدم زمنياً مقطعية النظام أي أكدية، والأحدث  أبجدية نُقشت بالقلم المسماري المختلف من حيث الشكل والميّزات عن الأكادي اختلافاً كبيراً.

رابعاً: على قطعة عاجية صغيرة الحجم (متحف دمشق الدولي) نُقشت الحروف الأبجدية الأوغاريتية المرتّبة رموزها المسمارية الثلاثون كالآتي:
 (أبجد-هوز-حطي-كلمن-سعفص-قرشت)، وبهذا تُصنّف أول أبجدية. وهذا الترتيب هو الترقيم أيضاً.

خامساً: هذا الترتيب الأبجدي هو أوغاريتي الاستنباط بالمطلق، ومن ميّزاته أنه ثبّت الحرف الصوتي، بخلاف المقطع الصوتي الأكدي الذي يتغيّر كلما تغيّر حرف العلة، فتتوزّع المسامير داخل المقطع الصوتي نفسه على 18 حالة، فمقطع زائد مقطع زائد مقطع يشكل كلمة. مع تثبيت الحرف الصوتي المسماري تخلصت الأبجدية الأوغاريتية من المقاطع الصوتية كلياً وصارت أي كلمة تكتب بالحروف الثابتة، ولكن مع المحافظة على شكل المسمار دائماً.

سادساً: أنتهت الأبجدية الأوغارتية حيث بدأت، بمعنى أنها ماتت بموت المملكة نفسها إثر اجتياح من عُرفوا بشعوب البحر لمنطقة المتوسط الشرقي وقضوا على عدد من حواضرها، من بينها أوغاريت والتي لم يقم لها قيامة بعدها. حتى اكتشف الموقع بالصدفة، سنة 1928، وبدأت عمليات التنقيب التي أخرجت آلاف اللوحات والرقم الطينية المنقوشة بالخط الأبجدي الأوغاريتي المسماري؛ إذن أبجدية أوغاريت ماتت في مهدها ولم تطوّر ولم تنتشر.

سابعاً: فأي أبجدية هي التي تطوّرت وانتشرت إذن؟ هي أبجدية جبيل-بيبلوس واسمها يعني كتابة/ كتاب (Bible)؛ انبثقت من كتابة تصويرية محليّة قديمة جداً ( paleo-giblite) استخدمت منذ الألف الثالث ق.م، وتطوّرت تباعاً حتى أخذت شكلها النهائي:  22 حرفاً هجائياً ثابتاً، والشاهد الأبرز عنها الكتابة المحفورة على غطاء ناووس أحيرام، ملك جبيل (المتحف الوطني-بيروت). هذه الأبجدية ستُبحر مع الفينيقيين –السوريين أينما حلوّا شرقاً وغرباً وستُعلّم، على ما روي، بداية مع المعلم قدموس الصوري، وتنتقل الى قبرص واليونان، وقرطاجة وكلّ حوض المتوسط وستُستخدم لفترة طويلة جداً،

 وستتطوّر الى الحرف اللاتيني الذي ما زال يستخدم الى اليوم على حاله كما ورثه عن اليونان (الحرف الكبير) بترتيبه الفينيقي أبجد- هوز... 

ثامناً: إذن، الذي تطوّر وانتشر هي الأبجدية الجبيلية وعمّت العالم القديم شرقاً وغرباً، ففي حين ما زال الغرب يستعملها كما تلقفها بزيادة الحرف الصغير والحركات وسبعة حروف تتلاءم واللسان الغربي واستبعاد الحروف المشرقية التي لا يلفظها او يستعملها محوّرة، فإنه في المشرق لم تبق الأبجدية الجبيلية على شكلها الكتابي الأول بل تطوّرت تباعاً الى خطوط متنوّعة تُعرف بالآرامية المربعة (تدمر، الحضر على الفرات) وسيعمّ استخدامها كلغة وكتابة عالمية وتصل حتى فارس والصين. ومنها ستنبثق أشكال كتابية متعدّدة كالسنسكرتية والفهلوية، مثلاً.

تاسعاً: في القسم الجنوبي من الجزيرة العربية، اليمن السعيد، ستنبثق عدّة خطوط عن الخط الفينيقي الجبيّلي، قادماً من شبه جزيرة سيناء والذي يُعرف بالكتابة السينائية الأولى ( proto-sinaïque) والتي عمل في مناجم اللاوزرد  ( lapis-lazuli ) فيها الفينيقيون-السوريون لحقبات طويلة وتركوا كتاباتهم في معبد "سرابيط الخادم"، تكريماً للربّة أو بعلة الحياة، ومنها الخط المسند والخط السبأي، والحميري وغيره.

عاشراً: في سورية الوسطى، سيتطوّر الخط الفينيقي الأدومي، والمؤابي، والسامري والمقدسي، والنبطي (البتراء وبصرى الشام) (الآرامي) الى الخط السرياني الأول ونرى تجلياته في منطقة حوران وسوف يُعرف بالكتابة الصفوية، هذا التطور سيكون حاسماً في مسيرة الخط الفينيقي. ويُعدّ نقش "أم الجمال" المثال الأبرز عن هذه المرحلة.

إحدى عشر: إن التحوّل الجذري في مسيرة تطوّر الخط الفينيقي على تعدّد أشكاله الكتابية والذي كان لحينه يكتب أفقياً ولكن بحروف منفصلة، سيكون بربط الحروف ببعضها بعضاً لأول مرة في تاريخ الكتابة وهذا ما سيتطوّر في منطقة حوران ويُعتمد تحت تسمية "السُريانية" أي كتابة سورية.

إثنا عشر: عن هذا الخط السُرياني الموصولة حروفه ببعضها بعضاً، ستتفرّع خطوط متعدّدة غير منقّطة ولا مشكلة. ..

ثلاث عشر: وعن هذه الكتابة السُريانية ستنبثق الكتابة العربية الأولى ونجد الشواهد المتعددة عنها منقوشة أو محفورة على الصخور في منطقة الحجاز تحديداً، وهي التي ستتطوّر الى الحروف الألفبائية العربية التي نعرفها ونستخدمها اليوم والتي سيصار الى تنقيطها وتشكيلها بعد أن جُمعت المصاحف ووحّدت في كتاب القرآن الكريم. وبهذا خُتمت رحلة الكتابة المشرقية.