دخل إلى مكتبي مرتجفاً برجفة الشيخوخة، ممسكاً ببربيش البول بيده وكيس البول في جيبه وهو يقوم بتغطيته بطرف معطفه الشتوي البالي؛ برغم أنها كانت أيام حرٍ شديد، ومثبتاً بنطاله بخيطٍ قام بربطه بشكل عشوائي ليسألني : كيف يا بنتي تساعديني أدخل دار المسنين وأعيش فيها؟
طلبت منه الجلوس ولم يقبل قائلاً لي بأنه لا يستطيع الجلوس ولم يذكر السبب.
طلبت له ما يشربه، وطلبت منه معرفة أسباب رغبته دخول دار المسنين، فأجاب بأن زوجة ابنه لا تريد أن يعيش معهم وتعامله معاملة سيئة (وهذا واضح على هيئة المسن ومن ملامح الانكسار والذل) وان ابنه لا يستطيع إغضاب زوجته وهو لا يريد أن يُسبّب المشاكل لإبنه مع زوجته، وانه لا يستطيع العيش عند بناته لأنهن متزوجات ولا يريد إحراجهن مع ازواجهن، ولأنه لا يريد أن يكون عبء على احد بسبب عجزه وكبر سنه.
فقال لي : أنا استلم راتب من المعونة الوطنية وبدي ادفعه لدار المسنين عشان يدخلوني اعيش فيها، لإني تعبت وتبهدلت
وانذليت......
بعيدا عن باقي التفاصيل المؤلمة وما تم تنفيذه من إجراء تحتم عليَّ تنفيذه حسب مسؤوليتي الانسانية أولاً والمهنية ثانياً؛
فأقول : إن دار المسنين ملجأ للبعض. ويطلبون اللجوء الانساني والعيش فيه بناءاً على رغبتهم لجوءاً طوعياً مما يعانوه في دور إيواء ذويهم، إضافةً لمن يتم إيداعهم قسراً من قبل ذويهم من لحمهم ودمهم، ليبحثوا عن الرعاية والحماية عند من يقدمونها مقابل الرواتب والمكافآت وبعضهم يبتغي بعض الأجر أيضاً.
ولكن... قبل أن يحصل هذا الموظف على لقمة عيشه مقابل أمانته على روحٍ عاجزة عن حماية نفسها، الأجدر به أن يحرص على حفظ هذه الامانة مخافة من الله قبل ان تكون خوفاً من الرقابة أو العقوبة، وإن لم يكن ممن يخافون الله (معاذ الله منهم) فلا بد أن يخاف من العقوبة والردع حيث؛
"من أمنَ العقوبة، ساء الادب"
بل ساء الأدب والأمانة والإنسانية والرحمة...
المسؤولية تُبنى بشكل هرمي، ولكن هناك من يحتاج للرقابة والعقوبة وهناك من تكفيه الاشارة.
لذلك، وبحسب حجم المسؤولية والأمانة لابد أن تكون الرقابة والتشديد، وبحسب درجة الحس بهذه المسؤولية تكون النتائج، وما عدا ذلك فهو من القضاء والقدر، ولكن لا يجوز ان نُسمي نتائج الإهمال والاستهتار بأمانة ارواح مخلوقات الله وخاصة الإنسان
قضاء وقدر.
الوزير ليس هو المسؤول المباشر؛ لكن مسؤوليته تكمن في الرقابة على من هم أدنى منه مسؤولية، وبشكل منهجي ملموس لا بالاعتماد على التقارير الورقية والمتابعات الخطية التي لا تعكس ان كانت زيارة متابعة فعلية تعكس الحقائق كما هي أو تقارير وهمية روتينية لغايات استكمال الحصول على المكافأة الشهرية، وأيضا ان تكون لجان التحقيق ذات طابع متمكن فنياً وصارم في التوصيات التي تضمن تحقيق الأهداف الفعلية من هذه المتابعات أو التوصيات، و لابد من تغيير نهج معاقبة الموظف النزيه والذي يطبق أصول العمل، وترقية الموظف الذي ينصاع ويخضع لتعليمات من هو أعلى منه في مخالفة تطبيق بنود اي تشريع ناظم لأي عمل في اي قطاع كان.
بغير ذلك؛ سنبقى ندور في حلقة مفرغة ولا يحدث اي تغيير يُذكر على مثل هذه الحوادث والقضايا.
فيما يتعلق بخصوصية حادثة دار الضيافة للمسنين، اذكر بأن مقولة وردت على لسان معالي وزيرة التنمية الاجتماعية إبّان كونها نائب في البرلمان وضمن مداخلات النواب على حادثة البحر الميت انذاك حيث قالت:
"هم رحلوا،، ونحن غرقنا بالوحل،
ورحم الله وصفي عندما قال:
" عندما يتعلق الأمر بالوطن؛
لا فرق بين الخطأ والخيانة""
نتمنى على وزيرة التنمية الاجتماعية ان تُطبّق نفس المبدأ لضمان العدالة والمصداقية في تحمّل المسؤولية، وهذا ما نتوقعه ونأمله من معاليها إن شاء الله.
وفي النهاية..
إننا نشيخ يوم بعد يوم ولا نشعر..
نشيخ وتشيخ معنا بعض الأحلام لا السنون والملامح فقط...
نشيخ بين من نرجو ان ندفأ بأحضانهم عند كبرنا،كما ادفأناهم بأحضاننا عند صغرهم..