آخر الأخبار

التونسية البحيري تكتب من السلع بصمات عالمية

راصد الإخباري :  


مسقط - راصد
كتب عبدالله الحميدي

تقدّم الأديبة والإعلاميّة وسفيرة السّلام رحمة البحيري جهدها في محيطها العربي لنشر ثقافة تنويريّة.

فالتّونسيّة البحيري، تتمتّع بثقافة واسعة، اكتسبتها من تطوافها بعدد من الدّول العربيّة، تارة لتقرأ ما تؤلّف، وأخرى لنشر ثقافة الخبرات والتّجارب الّتي عرفتها في رحلات التجوال العالميّة، أحيانا للوظيفة، وأخرى لمشاركاتها الثّقافيّة. اذ شاركت في وضع رؤية المنطقة العربيّة ٢٠٤٥ التّابعة للأمم المتّحدة.

ففي نشاط عماني رعاه عضو مجلس الشّورى الشّيخ محسن بن محمد فاضل، تحت عنوان "إشراقات ثقافية" تحدّث محاضرون عن مؤلّفها لسوادي حلاوة، وكانت هي ضابطة الإيقاع للأبعاد القيميّة للمكان القيرواني في الكتاب، وعن المفارقات الزّمنيّة فيه، وعن المكان حين يؤلّف لوعي الشّخصيّة في لسوادي حلاوة.

  وفي مناسبات متعدّدة تحرص دول عربيّة على دعوة البحيري للمشاركة في أنشطة ثقافيّة كان من أبرزها ما صنعته المديريّة العامّة للثّقافة والشّباب في عمان، لأجل قراءات في كتابها القصصي لسوادي حلاوة في مجمّع السّلطان قابوس بمشاركة كلّ من الكتّاب رئيسة مجلس إشراقات ثقافيّة إشراق النّهدي والدّكتور شفيق النّوباني، والدّكتور بسّام الشّارني، والنّاقد عبد الرّحيم مستاكو.

ولم تقف عضو منصّة السّلع الثّقافيّة البحيري عند ذلك، فقد سمّاها المركز العربي الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون الدّولي في مملكة النّرويج سفيرة للسّلام والنّوايا الحسنة، كما أشركتها الإسكوا – الأمم المتّحدة في وضع رؤية المنطقة العربيّة ٢٠٤٥م. 

ومن المهمّ إلقاء الضّوءعلى قصص الكاتبة البحيري، إذ رأينا أنّ أكثر ما يمنح توضيحا عنها هو في قراءة الدّكتور الأردني شفيق النّوباني لتلك القصص، خاصّة في الأبعاد القيميّة للفضاء القيرواني؛ الّتي جاءت في كتاب القاصّة البحيري، وجاء في قراءة د.النوباني للكتاب، أنّ  القيروان تعدّ واحدة من أعرق المدن التّونسيّة الّتي تأسّست في ظلّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وقد ظهر المكان القيرواني بصورة لافتة للانتباه في مجموعة «لسوادي حلاوة» لرحمة البحيري، إذ دارت أحداث معظم قصص المجموعة في القيروان؛ فإذا استثنينا القصّة الأولى «القنّاص» الّتي تدور أحداثها في حيّ الزّهور إبّان الثّورة التّونسيّة، وقصّة «العربيّة وسيعة» الّتي تدور أحداثها في دولة عربيّة لم تحدّدها القصّة، سنجد أنّ القصص السّبع الباقية تدور معظم أحداثها في القيروان.

وقد برزت القيروان بوصفها مدينة شرقيّة محافظة في مجموعة «لسوادي حلاوة»، وحين يبرز ملمح المحافظة سيكون للمرأة دور مهم في تحقيق هذا الملمح؛ ففي قصّة «الحمّام» الّتي تدور أحداثها في أحد حمّامات القيروان العامّة تنظر «منيار» إلى جسدها بقدر عال من الارتباك على الرّغم من أنّ كلّ مرتادات الحمّام نساء، فقد التزمت بتعليمات أبيها الّذي يعّد علّامة جامع الزّيتونة، إذ منعها من الذّهاب إلى الحمّام، حتى نصحها أحد الأطبّاء بارتياده بغرض العلاج، وقد أدّت طبيعة المكان المغلق دورها في تشكيل حبكة القصّة، إذ تعرّضت منيار إلى محاولة للتّجنيد في «داعش» من خلال إمرأة حاولت إعطاءها حبّة هلوسة، غير أنّ إحدى مرتادات الحمّام أنقذتها لتنتهي القصّة بخطبتها لأحد أقرباء تلك المرأة بعد أن بلغت سنا كادت تشعر فيه ألّا أمل في الزّواج.

وقد عّبرت النّهاية السّعيدة الّتي وصلت إليها القصّة عن ذلك البعد المحافظ، فهدف الزّواج والاستقرار غاية تنشدها أيّ فتاة تنتمي إلى مجتمع محافظ مترابط، وإذا كانت قصّة «الحمّام» قد أبرزت الزّواج بوصفه غاية تمثل شكلًا من أشكال المحافظة، فإنّ قصّة «لسوادي حلاوة» توضّح ملامح الزّواج الّذي يمثّل طموح المرأة القيروانيّة المحافظة؛ فحين ابتعدت «زينة» لتحاول الاستقرار مع زوج عاش حياته في إيطاليا لم تتمكّن من الاستمرار معه بعد أن كشفت عمله في «أصفهان» في إيران، إذ ذهبا إليها بعد قضاء ثلاثة شهور من زواجهما لتكتشف أن زوجها يعمل وسيطًا في زواج المتعة الشّائع في «مشهد»، ولتختار بعد ذلك أن تبقى دون زواج، ولتنتهي القصّة بنهاية سعيدة أيضًا، إذ تقبل على الزّواج مجدّدًا من حبيب الطّفولة الّذي غاب عن القيروان لمدّة.

وإذا كانت قصّتا «الحمّام» و«لسوادي حلاوة» قد انتهتا بنهايتين سعيدتين بالنّسبة لامرأة تسعى إلى تشكيل أسرة مستقرّة، فإن قصّة «حوريّة الكالتوس» تنطوي على مفارقة لا تبتعد عن ملمح المحافظة الّذي ظهر في القصّتين السّابقتين،

 فالسّيّدة «زهرة الكنايسي» الّتي استطاعت أن تصل إلى منصب رئيسة البلديّة، لم تتمكّن من الحفاظ على جمالها الأخّاذ، إذ لم يكن بروز صدرها إلّا بروزًا صناعيًا، فقد تعرّضت لتشوّهات بعد حرق بيتها عن قصدٍ من قبل من اتّهمها في شرفها.
وبعيدًا عن طبيعة الحبكة التي رسمتها البحيري في هذه القصّة،

 إذ وصلت الكنايسي إلى منصب رئيسة البلديّة دون مسوغ واضح، سنلحظ أن نزعة التحرّر الّتي ظهرت لدى هذه الشّخصيّة لم تكن إلّا وسيلة دفاع أمام انهيارها الدّاخلي النّاجم عن حالة التّشوّه الجسدي الّذي تعيشه، فلم تتمكّن الشّخصيّة من تحقيق الاستقرار الّذي تلازم مع حالة المحافظة في قصّتي «الحمّام» و«لسوادي حلاوة»، ولعلّ في ذلك ما يشير إلى طبيعة الفضاء الذي تحتكم إليه الشخصية؛ فالقيروان تظهر بوصفها فضاء أقرب إلى الملمح التّراثي ذي الَقَسمات الدّينيّة، ومن الطّبيعي أن تكون نزعة تجاوز التّقاليد في أيّ مجتمع ناجمة عن خلل في التّقاليد أو في الشّخصيّة، مهما كانت طبيعة هذا الخلل، إذ قد يكون هذا الخلل لدى الشّخصيّة ناجمًا عن طبيعة التّقاليد نفسها، كما هو الحال في شخصيّة «حوريّة الكالتوس».

وإذا كانت مدينة القيروان نفسها قد مثلت حيزًا محافظًا، فإن المناطق المحيطة بالقيروان ستبدو أكثر محافظة، بل ستكون مجالًا للخرافة والأسطورة، وسوف تبدو الشّخصيّات أكثر نمطيّة، وهذا ما بدا في قصّة «شجرة البول العملاقة»، فقد كانت الخرافة سببًا في انتقال العائلة إلى أرض زراعيّة حول المدينة، 

وكان هذا الانتقال سببا في طلاق الزّوجين بعد أن رفضت الزّوجة الّتي اعتادت حياة المدينة هذا الانتقال، غير أن الزّوج اتّخذ قراره دون مشاورة حين استبدل أرضًا واسعة ببيته بعرض من المشعوذ الّذي قال بوجود كنز في أرض المنزل، وفي هذا المكان ظهرت أنماط أخرى لشخصيّة المرأة، فظهرت المرأة «الحيّة» التي تحاول بكل ما تمتلك إيذاء من يحيطون بها. 

تقترن المحافظة بالتّقاليد، الّتي لا تعني خيرا أو شرا مطلقا، فالشّخصيّات الّتي حرّكت الحدث في «شجرة البول العملاقة» محافظة بطبيعة الحال غير أنّها لا تسلم من صفات الشّر، خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بتفاصيل العلاقات بين البشر، وتأثير بعضها على الآخر. والنّاظر في هذه القصّة سيجد أن شخصيّة المرأة بقيت بعيدة عن الرّاوي، إذ لم يحاول إبراز قناعاتها أو رؤيتها أو كيفيّة تشكّل علاقاتها بصورة دقيقة.

وإذا ما استثنينا الفتاة الجانحة التي قادت الرّاوي المشارك في قصّة «مرشي الهجاجل» إلى جريمة قتل بعد محاولة استقراره إثر خروجه من السّجن فإنّنا سنرى أنّ فضاء القيروان بقي أمينا على الشّكل المحافظ للمرأة،

 بل إنّ خروج المرأة من هذا الفضاء المتمثّل في القيروان تلازم مع تجاوز التّقاليد ووقوع المرأة فريسة للاستغلال، إذ استغلّت المرأة في قصّة «لسوادي حلاوة» إثر قبولها بالزّواج من الغرباء عن القيروان، وإذا كانت المرأة في هذه القصّة قد تجاوزت إشكاليّتها بعد عودتها إلى القيروان فإنّ ما يلفت الانتباه أن راوية قصّة «العربيّة وسيعة» بقيت أسيرة استغلالها أثناء إقامتها خارج القيروان،

 إذ لم يؤدّ هذا الاستغلال إلّا إلى فعل نقدي حاولت من خلاله كشف فعل الكذب الّذي يمارسه الرّجل في علاقته مع المرأة.
إن قصّة «العربيّة وسيعة» تقودنا إلى مقاربة مفادها أنّ علاقة ابنة القيروان بفضاء هذه المدينة علاقة شرعيّة تقود في النّهاية إلى علاقات شرعيّة مع الإنسان على الرّغم ممّا قد تقاسيه الشّخصية في ظلّ هذا الفضاء، في حين أنّ الفضاءات الأخرى تخرج الشّخصية من التزامها وتوقعها ضحيّة الاستغلال. والحقيقة أنّ فضاء الوطن بصورة عامّة بقي مظلّة تؤدّي خسارته إلى إحساس عميق بالفقد والغبن إذا ما كان هذا الفقد ناجما عن ابتعاد قسري أو شبه قسري، 

وهذا ما نلحظه في قصّتي «مرشي الهجاجل» و«علي ولد الحوّات».
لقد برز الفضاء القيرواني في مجموعة «لسوادي حلاوة» بوصفه عنصرا لافتا إلى إمكانات القاصّة وتمكّنها من التّعامل مع المكان ومكوّناته وجماليّات هذه المكوّنات من خلال سرد متمهّل لا سيّما في قصّة «لسوادي حلاوة» الّتي بدت فيها لوحة «نصر سامي» مقحمة إلى حد ما، وقصّة «الحمّام» الّتي كسرت فيها شخصيّة المرأة الدّاعشية انسجام الفعل السردي. 

والنّاظر في قصص المجموعة سيجد أنّ الفضاء القيرواني حاضر بكل تفاصيله بدءا من أدوات المطبخ الّتي تتعامل معها المرأة القيروانيّة وأنواع الملابس وانتهاء بشوارع المدينة واحتفالاتها الدّينيّة.