كتب د. محمد معجب، استاذ العربية في الجامعة الاردنية ورقة عمل للندوة (١٥) على منصة السلع بعنوان "السرد القصصي في النثر الأندلسي"
وتتضمن الورقة قصة حي بن يقظان لابن طفيل، وقصة رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد نموذجا.
وتاتي أهمية الورقة:
من القيمة الأدبية للموضوع، المتمثل في عمل فني فريد من جنسه، مثَّل طفرة في أدب النثر القصصي في الأندلس، فكانت هاتان القصتان أول عمل أدبي قصصي يطرح الخيال بمرتبة الواقع، بأسلوب سردي عجيب، لم يعرفه المشرق العربي، وكذلك كان سابقا للسرد القصصي الحدي
وقال د. معجب ان الورقة تستهدف تسليط الضوء على أهميتها، وكشف جوانب النبوغ والابداع والسبق في فن السرد وعناصره عند العرب ،بحيث أرتقى هذا العمل القصصي إلى مستوى القصة الحديثة من السرد وعناصره، كما تهدف الورقة إلى دحض الفكرة القاصرة لدى النقاد الغربيين، وبعض النقاد العرب بأن القصة العربية القديمة تفتقر لشروط القصة الغربية من حيث السرد القصي ، وعناصره وتاليا نص الورقة
.
المقدَّمة :
شهدت الأندلس نهضةٌ واسعةٌ في أدبها شعرا ونثرا، فأصبح الأدباء يتنافسون على الإبداع،
وأفرز هذا التنافس ظهور فن النثر القصصي، فعُدَّت القصة عملا فنيا حكائيا، قامت على تكثيف العنصر السردي في بنية الحكاية.
وقد أخذ النثر يحفل بالاهتمام
ويحتل ما كان يؤديه الشعر من دور، ولعل هذا يرجع إلى الرفعة الذهنية وللتقدم الحضاري، ويتمثل النثر بجلاء ووضوح في الرسائل بجميع أنواعها؛ لأنها حظيت بعناية كتاب معظمهم من فرسان الشعر الأندلسي، فكتاب الأندلس كانوا شعراء،
وقد أبدعوا فيه كما أبدعوا في النثر، في الوقت الذي نجد فيه كتاب المشرق قد تفوقوا في النثر وتخلفوا في الشعر.
وقد كان اهتمام الأدباء في الأندلس بالنثر القصصي واضحا، وخير مثال على ذلك القصتان الخياليتان قصة حي بن يقظان لابن طفيل، وقصة والتوابع والزوابع لابن شهيد، فالأولى يحكي فيها ابن طفيل رحلته الفلسفية في عالمنا بأسلوب سردي خيالي، دارت حول طفل ولد عن طريق علاقة غير شرعية، ثم تُرك في جزيرة مهجورة ، فتلقفته ظبية ، فأرضعته من ثديها وربته حتى بلغ سن الرشد،
واستطاع الوصول للمعرفة والحقيقة عن طريق حواسه، فأصبحت هذه القصة قفزة حققت فيها الفلسفة العربية مركزا فكريا مزدهرا في الوسط الثقافي .
أما القصة الثانية فهي قصة التوابع والزوابع لابن شهيد، فهي أيضا قصة خيالية يحكي فيها ابن شهيد رحلة خيالية إلى عالم الجن، تناولت أحداثا وأبطالا من عالمٍ آخرٍ غير عالمنا، فكانت ولا تزال مفخرة الأدب الأندلسي.
وكانت هاتان القصتان موضع هذه الدراسة نموذجا مميزا لفن القصة الأندلسية، أبرزتا عملا أدبيا سرديا فريد من جنسه، لم يسبقهما عمل مماثل، حيث تناولت قصة حي بن يقظان فكرة فلسفية في ثوب قصصي بأسلوب سردي جميل، وكذلك قصة التوابع والزوابع، حيث تناولت فكرة أدبية في ثوب قصصي بأسلوب سردي شيق ومثير. وقد توافرت في القصتين كل عناصر السرد القصصي وفق معطيات عصرنا .
عناصر السرد القصصي في القصتين.
كل عمل قصصي لا بد له من عناصر أساسية مكونه للسرد فيه، وأهم عناصر السرد القصصي هي:(الحدث ، الشخصيات، الزمان والمكان، الحوار ، العقدة والحل)، فهذه هي أهم عناصر السرد في القصة الحديثة، والتي على ضوئها حكم النقاد الغربيون ،وبعض النقاد العرب أن القصة العربية تفتقر لمثل هذه العناصر السردية، ولإثبات خطأ هذا الحكم قامت هذه الورقة؛ لتثبت وجود هذه العناصر في القصة العربية القديمة، فكانت قصة حي بن يقضان لابن طفيل، وقصة التوابع والزوابع لابن شهيد شاهدين للوقوف على توفر عناصر السر القصصي فيهما، على النحو التالي:
أولا: الحدث .
وهو الموضوع الرئيس الذي تدور حوله القصة. ولنبدأ بقصة(حي ين يقظان) لابن طفيل ، والتي كانت المعرفة الإنسانية والوصول إليها هي الحدث الأبرز والفكرة التي دارت حولها القصة، وقد تعددت فيها أحداث فرعية للتعبير عن الفكرة الرئيسة ، التي أراد الكاتب إيصالها للقارئ والمستمع، حيث جسد الكاتب فكرته في شخصية( حي بن يقضان)الذي تُرك طفلا في جزيرة مهجورة، فربته ظبية حتى بلغ سن الرشد، وسرد الكاتب أحداث هذه القصة بحنكة فائقة ؛ للوصول للهدف الرئيس وهي المعرفة العقلية عن طريق الحواس، عبر عدة مراحل زمنية سيتم الوقوف عليها عند عنصر الزمان. وخلاصة القول أن الحدث أو الفكرة في هذه القصة كان فلسفيا بأسلوب قصصي.
أما الحدث أو الفكرة الرئيسة في قصة( التوابع والزوابع) لابن شهيد فكانت أدبية، وهي إنصاف ابن شهيد أدبيا وشاعرا ولغويا في عالم غير عالمنا ، ألا وهو عالم الجن، عند حرمان ابن شهيد من حقه أديبا وشاعرا ولغويا في عالم الواقع، نسج ابن شهيد رحلة خيالية إلى عالم الجن ليجد عندهم ما لم يجده في عالم الإنس، فالتقى في عالم الجن بتوابع الشعراء والكتاب، كما التقى بزوابع الجن، وناظر التوابع والزوابع وناقشهم، وتغلب عليهم جميعا، وخرج بإجازة منهم كاتبا وشاعرا ولغويا، عن طريق تابعة وزابعة أيدا ابن شهيد وساعداه حتى وصل لما وصل إليه، فيذكر ذلك بقوله على لسان أحد التوابع أقْسم أن له تابعة تنجده وزابعة تؤيده، ليس هذا في قدرة الإنسان.
وتمكن ابن شهيد من اقتحام عالم العجائب، واستحضار عالم الجن لعرض فكرته، والتعبير عنها بقالب قصصي؛ ليدل على أن الأدب العربي القديم نسج الأفكار الأدبية بأسلوب قصصي مميز من حيث السرد .
ثانيا: الشخصيات.
تُعد الشخصية أحد عناصر البناء السردي، التي تعطي من خلالها تفاعلها مع العناصر البنائية الأخرى بعدا أدبيا.
وقد كانت جميع الشخصيات في القصتين موضع الدراسة تخيلية . فكانت في قصة التوابع والزوابع من توابع الجن وزوابعه، وتم التعامل معها كشخوص حقيقية قائمة بذاتها، فعند قراءتنا لهذه القصة يأخذنا خيط السرد المتواصل، فننسى أن تلك الشخصيات خيالية ولا وجود لها في الواقع ، وننسى أن المتكلم الفعلي على ألسنة الشخصيات هو ابن شهيد راوي القصة ومؤلفها، وهذا كله من اتقان الكاتب لفن السرد في رسم الشخصيات، وقد كانت الشخصية الرئيسة في قصة التوابع والزوابع هي شخصية أبي بكر بن حزم ، الذي وُجهت إليه القصة في البداية، وكذلك شخصية زهير بن نمير ،التي كانت من الشخصيات الفاعلة في سير الأحداث، من خلال حواراتها الدائم مع توابع الشعراء والكتاب، فكانت شخصية زهير بن نمير هي الشخصية الأولى، حيث عُدت أكثر الشخصيات حظا في الظهور، ومحور الأحداث والحركة، وفي فلكها تدور بقية الشخصيات الثانوية، فمنها تبدا القصة وإليها تنتهي، وكل الشخصيات كان يحركها المؤلف كالدمى في يده، وهذا ينم عن عمق ووعي بتقنيات السرد ومطالبه،
أما شخصيات قصة(حي بن يقضان)، فكانت أيضا رئيسة وثانوية، لكنها كانت قليلة مقارنة بقصة ( التوابع والزوابع)، حيث كانت الشخصية الرئيسة هي شخصية (حي)، كانت كل أحداث القصة تدور حولها، فقدم ابن شهيد رؤاه الفلسفية للوجود والذات من خلالها عبر السرد، فشخصية (حي) قد أبرزها السرد شخصية مفكرة متأملة، عاشت على الفطرة وتكيفت مع أحداث الحياة اليومية، واستطاع اين شهيد اثبات أحداث كونية ،ومعارف وخبرات عن طريق التجربة والتأمل، فكانت أكثر الشخصيات ظهورا وبروزا عن بقية الشخصيات، فسيطرت على كل المسارات السردية للوصول لعالم المعقولات، من رضيع ترعاه ظبية، إلى باحث عن المعرفة في أطوارها الحسية والعقلية والغيبية.
أما الشخصيات الثانوية فيها فكانت قليلة على رأسها الظبية التي أرضعت(حي) منذ الولادة الأولى ، فهي ثانوية لكنها محورية ومؤثرة؛ نظرا لدورها الأساسي في تحقيق الانفراج وحل العقدة. وقد اعتمد كاتبها على المجاز والتمثيل ليقدم أفكاره واسراره مرمَّزة.
ثالثا: الزمان والمكان.
يُعد الزمان والمكان عنصران مهمان في السرد القصصي؛ لأنهما الرابط الحقيقي للأحداث والأمكنة..
وفي قصتي(حي بن يقضان، والتوابع والزوابع) بنى القاصان قصتيهما على الطريقة التقليدية، ففي قصة (حي بن يقضان) بنى ابن طفيل قصته زمنيا على التدرج في الحداث من المقدمة إلى العقدة فالنهاية، وقسم أحداث قصته زمنيا إلى سبع مراحل زمنية ، فجعل الزمن متطورا منذ الولادة لبطل القصة ولقائه بالظبية التي ربته ورعته.
وقد وظف ابن طفيل الزمن في تسريع السرد عبر اختزال الأحداث بغرض الربط بين أجزاء النص، فربط بين الحدث والمشاهد السردية دون إطالة. واختصر سنوات من عمر الأحداث في القصة، فقد جعل زمن السرد أصغر من زمن الواقع فقال: مرت عشر سنوات. متجاوزا بعض المراحل في القصة، ويكتفي عادة بالقول: مرت سنتان أو انقضى وقت طويل. وقسم زمن القصة إلى سبع مراحل، المرحلة الأولى كانت منذ وصول الطفل إلى تلك الجزيرة المهجورة، والتقفته الظبية ، وقامت برعايته حتى بلغ من العمر سبع سنوات.
وكانت المرحلة الثانية ملاحظة حي بن يقضان لاختلافه عمن حوله من الحيوانات، من حيث الشكل والفعل، اثنا تصفحه لجميع الجسام التي كانت حوله، بحيث اكتشف في هذه المرحلة الزمنية الفرق بينه وبين الموجودات حوله.
والمرحلة الزمنية الثالثة والرابعة كانت منذ موت أمه الظبية وبحثه عن سبب الموت، عن طريق التشريح، أما المرحلة الزمنية الخامسة، فكانت اكتشافه سر الحياة والموت، وكانت المرحلة السادسة
والأخيرة هي مرحلة وصوله عن طريق الحواس إلى المعرفة والحقيقة الفلسفية التي سعى إلى الوصول إليها عبر السرد القصصي.
ففي كل مرحلة من المراحل الزمنية جعل الكاتب البطل يحقق شيئا من المعرفة حتى وصل إلى المعرفة كاملة.
أما الزمن في قصة التوابع، فقد كان الزمن الحقيقي في أحداث القصة هو القرن الخامس الهجري، الذي تمثل في زمن تأليف القصة، واحتوت أحداث القصة ثلاثة أزمنة : الماضي والحاضر والمستقبل، فيبدأ الماضي بقول الكاتب: كنتُ أيام كتاب الهجاء أحن إلى الأدباء ، أصبو إلى تأليف الكلام، فتبعت الدواوين، جلست إلى الأساتيذ. ، وغالبا ما يعتمد الكاتب على صيغة المفاعلة في الماضي كقوله: تذاكرتُ يوما مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء ، وما كان يألفهم ، كما نجده في بعض الأحيان يستهل السرد بصيغة الجمع في الزمن الماضي بقوله: ركضنا ، حضرنا ، انصرفنا. ثم ترد بعض المؤشرات الزمنية الغامضة مثل : زمن، ويوم ، وشهر ؛ للتخلص من مأزق تحديد الفترة الزمنية لبداية الحدث، كقوله: وما أنت ألا محسنٌ على إساءة زمانك، وقوله: قالوا إنه لفي شرب الخمر منذ أيام عشرة.
أما الزمن الحاضر في القصة فيبدأ به عنما انقطع به الكلام، ولم يستطع إكمال الشعر، فبدا له تابعه زهير ، الذي رغب في صحبته، وكان له ما أراد .
ثم أتى بزمن المستقبل، وحدث مزج بين الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، كما جاء على لسان توابع الشعراء والخطباء بقوله: على لسان تابع ابي الطيب المتنبي لابن شهيد إن امتد به طلقُ العمر ، فلا بد أن ينفث بدرر، وما أراه إلا سيحضر بيت قريحة كالجمر، وهمة تضع أخمصه على مفرق البدر ، حيث حاول أن يمني نفسه بمستقبل زاهر على لسان توابع الشعراء والخطباء.
ولو دققنا في القصة لوجدناها تمزج بين الماضي والحاضر والمستقبل، فقد سرد ابن شهيد أحداث رحلته بين ماضي وحاضر ومستقبل، تراوحت بين استذكار الماضي والمستقبل، الذي يتطلع الوصول إليه .
فالماضي كان حسرة وندم على الذي فات، وحب في ذكره لامتيازاته الخاصة، وأما الحاضر فهو رغبته في تحقيق الانتصار على التوابع الذين قابلهم، أما المستقبل فهو الذي يسعى من خلاله إثبات وجوده الفكري، وقيمته الأدبية من خلال وقوفه في وجه التوابع الذين قابلهم، لينالوا منه ، ويختبرونه.
وبهذا نستطيع القول أن بناء الزمن في السرد محكوم بالمفارقات الزمنية، التي تأرجحت بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبهذه الأزمنة الثلاثة برزت القيمة الجمالية للسرد، من خلال الترتيب الزمني .
ويشكل المكان عنصرا أساسيا من العناصر السردية المهمة، حيث ويمثل الدائرة التي تدور فيها الأحداث، فكل حدث من أحداث القصة مرتبط بمكان معين، وتتبادل فيها الشخصيات أطراف الحديث؛ لتشكل نصا سرديا متكاملا، وقد لا يكون المكان واضحا ومصرحا به في العمل القصصي ، إلا أن القارئ يستنتجه من القرائن التي تدل عليه.
وقد كان المكان في قصة (حي بن يقظان) جزيرة الواق، وهو المكان الأصل؛ لكونه مسقط رأس حي بن يقظان يتضح ذلك من قول ابن طفيل:((وهي الجزيرة التي ولد بها من غير أم ولا أب ... إنها جزيرة الواق ، لأن تلك الجزيرة أعدل بقاع الأرض هواءً ، وأتمها بشروق النور الأعلى عليها استعدادا.
والمكان الآخر هو ساحل البحر، وهو المكان الذي اتخذه حي بن يقظان و آسال للوصول للناس في الجزيرة الأخرى، كما ذكر ذلك ابن طفيل بقوله: ورأيا أن يلتزما ساحل البحر ولا يفارقاه ليلاً ونهاراً، ورأى رجلين على الشاطئ فطلبا منهما أن يحملاهما في السفينة إلى أن وصلا إلى الجزيرة التي أراداها .
وكل الأماكن المذكورة في القصة لها علاقة وطيدة في الحدث الرئيس للقصة، فالجبال والغابات والصحارى والكهف المذكورة تحمل أبعادا وتفاصيل متعددة، فالجزيرة المعزولة هي رمزا للعزلة والوحدة التي عاشها البطل، فالمكان في قصة حي بن يقظان كان مفتوحا ومغلقا.
أما المكان في قصة التوابع والزوابع، فقد تعدد بتعدد اللقاءات، وتوزعت الأحداث على مجموعة من المشاهد الوصفية للأماكن، بحيث استأثر كل لقاء بمكان خاص احتفى ابن شهيد بوصفه واستقصاء ملامحه ، بحيث تتفق أجواؤه مع الأجواء التي كان يتصف بها الموصوف، حيث وجدناه يجهد نفسه لإعطاء كل تابع استراحة وصفية كفيلة بأن تعرفنا بفضائها السردي ، فقد عمد إلى وصف بيئة توابع الشعراء، وقد تمكن الباحث من رصد بعض المقاطع التي تناولت وصف أماكن التوابع، وكل شخصيات القصة ،وأفعالها، وقد بدأ الكاتب بذكر مكان انطلاق القصة إلى المكان في عالم الجن بحديثه عن تابعه فقال: فإذا به يجتاب الجو فالجو ، ويقطع الدو فالدو حتى التمحت أرضا لا كأرضنا ، وشارفت جوا لا كجونا ، متفرع الشجر ، عطر الزهر. ودلالة السماء هي حلم التفوق الذي كان يحلم به ولم يتحقق في الواقع، فخرج من عالمه الحقيقي إلى عالم آخر من صنع خياله، وهناك دلالة هي حب الرفعة والتسامي ،وقد يكون استعمال السماء من باب التدليل على التأمل والتفكير في ملكوت الخالق، بحيث جعل السماء المكان الذي يستحق أن تجري فيه أحداث رحلته.
وكل هذه الدلالات تدل على النزعة الداخلية التي تسكن ابن شهيد، وهي حب التفرد والتفوق على اقرانه من الشعراء والكتاب، ومما يؤكد ذلك دلالة المكان ووصف أماكن التوابع . فقد وصف مكان امرئ القيس بــ واد من الأودية تتكسر اشجاره ،وتترنم أطياره. فالراوي يهيئ هذا الوصف لذات الموصوف، التي يكنها ابن شهيد للموصوف، فهذا الوصف الدقيق لمكان تابع امرئ القيس؛ ليعطيه الصورة التي يستحقها ، فكان وصف المكان هنا يعبر عن صورة جمالية أراد أن يزين بها ابن شهيد مكان امرئ القيس، كما لو أنه يراه فيها قابعا ينتظره. ووصف مكان تابع أبي نواس حيث جعله في قمة جبل بقوله:((وسرنا حتى انتهينا إلى أصل جبل.
فبالنظر إلى مفردة جبل على ما بها من إيحاءات الشموخ والارتفاع ، التي يقصد بها علو شأنه.
رابعا: الحوار.
اهتم العلماء بتعريف الحوار، فهو عنصر مهم من عناصر العمل القصصي، ويكون الحوار في النص على صيغة :(قال وقلت).
وتقنية الحوار هي تقنية تأتي في تضاعيف السرد، وتنقل إلينا تداخلات الشخصيات ومن أهم وظائف هذه التقنية كسر رتابة الأحداث ، وتقرب الشخوص من القراء دون وصاية سردية يمارسها الراوي على المروي له .وفي المشهد يستطيع القارئ مشاهدة القصة وكأنها مسرح تتحرك عليه الشخصيات، بفضل ذلك الحوار.
وقد توفر الحوار بنوعيه في قصتي( حي بن يقظان ، والتوابع والزوابع): الداخلي ، والخارجي، من ذلك ما ورد من الحوار الخارجي -بصيغتي( قال: وقلت :)- في قصة التوابع والزوابع مع تابعة ابن شهيد (زهير بن نمير)، حيث قال: وقلتُ له بأبي أنت من أنت؟ فقال: أنا زهير بن نمير، من أشجع الجن. فقلت: وما الذي حداك إلى التصور لي؟ فقال: هوى فيك ورغبةً في اصطفائك. قلت: أهلا بك أيها الوجه الوضاح. فنجد المشهد الحواري أتى ليعبر عن العلاقة الحميمية بين الراوي وتابعه الذي أراده أن يكون من الجن، وأختاره من قبيلة أشجع ؛ لأنه فضل صلة القرابة بين اشجع الجن ، وأشجع الأنس، وهذا يؤكد اعتزاز ابن شهيد بنفسه وبنسبه، وليحقق له مع التابع زهير ما لم يجده مع بني جنسه الإنس.
وقد اتسعت دائرة الحوار في القصة، فجرى على السنة نقاد الجن وألسنة حيوان الجن، كالحمير والبغال والإوز، وقد ورد حوار ظريف مع بغلة من بغال الجن وهي بغلة ابي عيسى متضمن معنى التهكم والسخرية منه فقالت البغلة: أما تعرفني أبا عمر؟ فقلت: لو كان ثمة علامة، فأماطت لثامها ، فإذا هي بغلة ابي عيسى ، والخال على خدها ،فتباكينا طويلا، وأخذنا في ذكر أيامنا ، فقالت: ما أبقت الأيام منك ؟ فقلتُ: ما ترين . قالت: أشبَّ عمرٌ عن الطوق ، فما فعل الأحبة بعدي ، أهم على العهد؟ قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان ، وتنكرت الخلان، ومن إخوانك من بلغ الإمارة ، وانتهى إلى الوزارة . فتنفست الصعداء ، وقالت: سقاهم الله سبل العهد ،وإن حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود ، إلا ما أقرأتهم مني السلام . قلت: كما تأمرين وأكثر.
أما الحوار الداخلي في القصة، ويسمى في النقد الحديث بـ ( المونولوج) وهو مصطلح انجليزي، فهذا النوع من الحوار لا يشترط مشاركة خارجية في الحوار ، ولا تعاقب في الإرسال والتلقي، بل يلقى من طرف واحد وإليه ، فهو نشاط أحادي لمرسل في حضور مستمع حقيقي أو وهمي ،وهو عبارة عن عرض للحالة الداخلية للشخصيات وكشف المكامن ، ولا يشترط أن يكون مسموعا ، وإنما يكتفى فيه بالهمس والتفكير والتذكر، وهو تصوير للحياة الداخلية للشخصية التي تعاني من كبت تريد التنفيس عته، أو اشباع رغبة لم تحقق؛ نتيجة انكسار هذه الشخصية في واقعها الخارجي، فالمونولوج صرخة مكتومة مرتدة نحو الداخل حين لا ينسجم الواقع الخارجي مع الداخلي ، نتيجة احباط الشخصية في واقعها الخارجي.
وفي قصتينا موضع الورقة فقد كان الحوار الداخلي حاضرا فيهما، واحتل حيزا في أحداثها، وقد ورد في عدة مواضع متخذا صيغة:( فقلت في نفسي)، وقد تكررت هذه الصيغة في بعض المقاطع السردية، مثال ذلك ما ورد في قصت التوابع والزوابع في حوار الكاتب مع تابعة الجاحظ بقول على لسان تابعة الجاحظ: فقلت في نفسي : طبع عبد الحميد الكاتب ومساقة ورب الكعبة.
وفي مشهد آخر يقول الكاتب: فقلت في نفسي : قرعك بلله بقارعه ، وجاءك بمماثله.
ففي هذا النوع من الحوار نقف أمام الراوي الوحيد الذي هو المؤلف، وهو ابن شهيد، الذي جعل من نفسه متكلم ومخاطب .
أما الحوار في قصة ( حي بن يقظان)، فقد كان قليلا مقارنة بقصة التوابع والزوابع؛ لأن البطل الذي هو محور الحاث كان لا يتكلم حتى قاربت القصة على الانتهاء؛ لأن الأحداث تتطلب ذلك.
من خلال الحوارات السابقة( الخارجي والداخلي) في قصتي (التوابع والزوابع ، وحي بن يقظان) ندرك أن الحوارات قامت بتشكيل بؤرة السرد من أجل تحقيق الهدف الذي أراده الكاتبان، ونؤكد أيضا على حضور الحوار بشقيه الخارجي والداخلي في القصتين، مما يؤكد حضور عنصر الحوار في القصتين.
خامسا: العقدة والحل.
تقوم الحبكة القصصية الحديثة على العقدة والحل، وهما عنصران مهمان من عناصر السرد القصصي، والرجوع إلى القصتين موضع الدراسة، فقد كانت العقدة والحل حاضرتان في السرد القصصي للقصتين، فقد تكونت القصتان من مجموعة أحداث يبدأ كل حدث بقعدة وينتهي بحل لها، وكانت الأحداث بما فيه من عقدة وحل مترابطة بوعي انتقائي، ارتبطت ارتباطا وثيقا بالجانب الدرامي.
فكانت العقدة في قصة حي بن يقظان في اللحظة الفارقة التي انبثق منها وعيه، عندما ماتت أمه الظبية، وبدأت الأحداث المترابطة وهي: اكتشاف حقيقة الموت، وحقيقة الانسان والحيوان، وصولا إلى الحقيقة وهي الإدراك والمعرفة، و كان في كل حدث عقدت تنتهي بالحل.
وكذلك قصة التوابع والزوابع ، فقد كانت العقدة متمثلة في عدم قدرة ابن شهيد قول الشعر بسبب ما كان بعناية من ألم نفسي لفقد محبوبته، وأيضا بسبب عدم تقدير مجتمعه لقيمته الأدبية، فكان الحل ظهور تابعه زهير بن نمير، الذي أعطاه أبيتا يستحضره بها عند الحاجة إليه ،فكان هذا بمنزلة الحل للقعدة التي بدأت بها القصة، والتي انطلقت منها جميع الأحداث، وعلى منوال هذه البداية نسج ابن شهيد أحداث قصته وعقدها وحلولها.
وتخلص الورقة إلى نتيجة مهمة وهي: أن السرد وعناصره في القصة قد وجد في الأدب العربي قبل ظهوره في الأدب الغربي .