عرضت منصة السلع الثقافية لكل اوراق العمل باستثناء آخر ثلاثة.
في هذا الخبر الثقافي ما قدمه استاذ الادب العربي والنقد د. ابراهيم الياسين عن صورة الأمّ في رواية "جدائل الصبر "للكاتبة إيمان الكريمين
وتاليا النص
تسعى هذه الدّراسة لتجلية صورة "الأمّ" في رواية "جدائل الصبر" للكاتبة الكريمين، والوقوف على تمثيلاتها المتعدّدة داخل العمل الرّوائي؛ إذ عكست الرّواية صورتين نمطتين للأمّ، ورصدت مواقفها تجاه قضايا مركزيّة في الرّواية، وكشفت عن طريقتها في التّعامل مع تلك القضايا بوصفها ركناً أساسيّاً في الأسرة، ومحوراً فاعلاً في إدارة شؤونها وتلبية احتياجاتها، كما بيّنت الرّواية طريقة الأمّ في حلّ مشكلات بيتها، والتّفاعل مع أفراد أسرتها للوصول إلى حلول مناسبة أو مؤقتة.
صورة الأمّ في رواية "جدائل الصبر"
للكاتبة إيمان الكريمين
المقدّمة
انشغلت الدّراسات النقدية الحديثة بالوقوف عند دراسة الشخصيات في الأعمال الروائية من حيث بنيتها، وفاعليتها، وأبعادها، وتقنيات رسمها؛ بوصفها عنصراً مهماً في البناء الروائي، ودعامة أساسية في تحريك الأحداث، التي "تنتج من خلال العلاقات بين الشخصيات، فالفعل هو ما يمارسه أشخاص بإقامة علاقات فيما بينهم ينسجونها وتنمو بهم فتتشابك وتتعقد وفق منطق خاص به". والشخصية من نسج خيال الكاتب يبث بها الحياة ويصورها بشكل فني دقيق تجسد فكرته، وتعبر عن خلجات نفسه، وعن تجربته في الحياة، وهي "مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء العامة، ولهذه المعاني والأفكار المكانة الأولى في القصة منذ انصرفت إلى الإنسان وقضاياه؛ إذ لا يسوق القاص أفكاره العامة وقضاياه العامة منفصلة عن محيطها، بل ممثلة في الأشخاص الذين يعيشون في مجتمع ما".
والشخصية في العمل الروائي هي التي "تصطنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصطنع المفاجأة، وتنهض بدور تضريم الصراع أو تنشيطه من خلال أهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب...".
وقد توقّفت بعض تلك الدراسات عند دراسة شخصية "الأمّ" تحديداً؛ لما لها من قدر جليل في حياتنا؛ لكونها ركيزة أساسية في بناء الأسرة، وإعداد الأجيال وتأهيلهم، والإشراف على تربيتهم وتقليدهم. فهي المدرسة الأولى التي يتلقّى المرء تدريسه وتعليمه في رحابها، وهي نموذج مقدّس ومثالي في الحياة، ويمكن أن نلحظ هذا النموذج في بعض الأعمال الروائية العربية والغربية بما تمثّله من قيم التضحية والفداء والإخلاص في خدمة أسرتها، والدفاع عن أبنائها وتربيتهم وتعليمهم.
والأُمّ صفة مشبهة مشتقة من أمٌّ على وزن فَعْلٌ، والأَمُّ هو التوجه والقصد واللجوء، وسميت بذلك لأنّ ابنها يتوجه إليها ويقصدها، ويلجأ إليها ويحتمي بها عندما يشعر بالخطر، ويجد عندها الحماية والمودة والرحمة. وأمّ كلّ شيء: معظمه، أو أصله وعماده وما يجتمع إليه غيره. ويُقال لكلّ شيء اجتمع إليه شيء آخر فضمّه: هو أم له، والأمّ: هي الوالدة، وتُطلق على الجدّة. والأمومة في معاجم اللغة المختلفة عاطفة رُكزت في الأنثى السوية، تدفعها إلى مزيد من الرحمة والشفقة، وهي الرابطة التي تصلُ الولدَ بأمّه، أو الوالدة بأبنائها، وتُعدّ من أقوى الروابط الإنسانية.
وقد جاء لفظ الأمّ في القرآن الكريم ليدل على الأصل الكريم الذي هو رمز التضحية والفداء والطهر والنقاء والحب والحنان، وهي الأصل الذي يتشرف الولد به، ويفخر بنسبه له ونسبته إليه، بينما جاء لفظ (الوالدة) ليدل على المرأة التي تنجب الطفل بغض النظر عن مواصفاتها وصفاتها الحسنة أو القبيحة، وهذه الوالدة هي محل البرّ والإكرام لا فرق بين المسيء منها والحسن من حيث وجوب ذلك البر.
ورواية "جدائل الصبر"موضوع الدراسة كغيرها من الرّوايات التي تناولت هموم المرأة ومشكلاتها، وما يحيط بها من ظروف، وقد برزت فيها شخصية "الأمّ" بصورة جلية؛ إذ توقّفت كاتبتها على صورتين نمطيتين للأمّ: الأولى إنشراح "أم مجدلين" بطلة الرّواية والشخصية الرئيسة فيها، والثانية "أم مصطفى" حماة مجدولين.
ثانياً: تمثيلات "الأمّ" في الرواية
: صورة أمّ "مجدولين"
رسمت الكاتبة صورة واضحة المعالم لـ"إنشراح" أمّ مجدولين في كليتها وشموليتها الإنسانية؛ فهي الأم المنشغلة، التي تقضي وقتاً طويلاً بأعمالها المنزلية، بالإضافة إلى قيامها بأعمال أخرى تساعد بها زوجها في مصاريف البيت في ظلّ ظروف اقتصادية صعبة؛ إذ تقضي ساعات طويلة وهي تجلس أمام ماكنة الخياطة على حساب صحتها، وبيتها، وتربية أبنائها، تقول الكاتبة على لسان "مجدولين": "أمّي التعِبة من جلوسها على ماكنة الخياطة لا وقت لديها لتمنحني حبّاً يغنيني عن خيالي واسترساله في القصص الطفوليّة".
فالأمّ هنا تقوم بدور إضافي إلى جانب دورها الرئيس، وهذا نموذج متكرّر في مجتمعاتنا العربية بشكل عام ومجتمعنا الأردني بشكل خاص، لكنّ هذا الامر قد يكون له آثار سلبية في نفوس الأبناء وعلى مجريات حياتهم مستقبلاً، وهذا ما حدث مع "مجدولين"، حيث كانت بحاجة كبيرة إلى حنان أمها وعطفها من جهة، وإلى نصحائها وإرشاداتها وتوجيهاتها من جهة أخرى، خصوصاً في مرحلة النضج المبكر، حيث تقول: "تولّد عندي ما يُسمّى بالذكاء الاجتماعي أكسبني إياه الشعور بالإهمال من قبل أمي في مرحلة كل ما كنتُ أحتاجه هو الاهتمام"، فصرت مجرد: "بقايا اهتمام من أبوين مشغولين دائما بأعباء حياة الفقر".
وتقول: "سألت أمي يوماً عن معنى كلمة الحبّ، كنت قد سمعتها من صديقتي بالمدرسة، لكن إجابة أمي كانت إمطاري بسيلٍ من الشتائم جعلتني أشعر بأني ارتكبت مصيبة"، وتقول أيضاً: "دخلت على مسامعي عبارات كثيرة جديدة تدور في إطار التحذيرات التي لا تنتهي" ديري بالك على حالك لا تمشي مع بنات السوء، ولا تضحكي بصوت عالي، وخلّي عيونك بالأرض لما تمشي، نزلي راسك ولا تطلعي لا يمين ولا شمال، و لا تحكي مع أولاد الحارة وما تمشي جنب الرجال. أسأل أمي عن أسباب كل تلك التحذيرات، لكن لا آخذ جواباً منها سوى الزجر والنَّهي فقط"
إنّ هذه النصوص تكشف بوضوح عن صورة لأمّ لم تقم بدورها على نحو متكامل؛ إذ تتخلّى عن جزء من مسؤولياتها الأساسية تجاه أسرتها، وليس ثمة لغة حوارية بينها وبين ابنتها غير لغة التعنيف، والسِباب، والشتم، والضرب في كثير من الأحيان؛ وهذا ما سبّب ضعفاً في النسيج الأسري، فتقول "مجدولين": "سمعت والدي ذات يوم وهو يتحاور مع والدتي وطلب منها الاهتمام بي بشكل أفضل، وأن تُريحني من أعمال المنزل لأتفرغ لدراستي. فردت عليه قائلة: يا رجل، لا تخرّب عقلها بأفكارك، آخرة البنت الزواج، خلينا نكمل مصاريف دراسة أخوها أفيد إلنا، دخلك شو رح نستفيد من تعليمها؟ آخرها لبيت جوزها...بلا تعليم بلا هم، ابن أخوك عينه عليها، إنت عارف أخوك والله بعيشها ملكة بمصاريه وبساعدنا بمصاريف دراسة الولد" وتقول: "الأمّ تضربها لأنّها كتبت قصيدة لشاب كانت قد أعجبت به، و"تحبس في المنزل لعدة أيام لم تذهب خلالها للمدرسة.. وبعدها تعود للمدرسة وعلى وجهها آثار الضرب والكدمات المزرقة على عيني"
وتشير الكاتبة أيضاً إلى قضية مجتمعية هامة في الأسرة تعتمد كثيراً على الأمّ، وهي معاملة الأبناء بنوع من المساواة دون تمييز بينهم، أو تفضيل لأحدهم على الآخر، أو تفريق بين الذكور والإناث؛ لما لذلك من أهمية كبيرة بين الأبناء، حيث إنّ هذه الظاهرة موجودة عند الأمهات أكثر من الآباء، حيث تقول: "كانت أمي دائماً تقول: "إني أقل شقيقاتي حظّاً بالحلاوة ...فلم أكن المفضّلة عند أمي وهذا ما جعلني دائماً لا أحبّ التواجد في نفس المكان مع شقيقاتي وخاصة الصغرى الأجمل مني. شعور طفوليّ أفرزه التمييز الأسري وعدم الانصاف في المشاعر عند الأم...".
إنّ حرمان "مجدلين" من حقها في التعليم وإكمال دراستها بالكلية على حساب تدريس أخيها خارج الأردن من أشد أنواع الظلم، وأقسى أشكال التمييز، وهو ما ترك آثاراً نفسية وآلاماً صعبة لدى "مجدولين"، حيث تقول: "شعرت للحظة بالرعب من كلامها فكل ما يهمّها تزويجي، وأن تستريح من مصروفي، وتعتقد أنّ تعليم أخي واجب وحق على والدي ويجب أن يعطيه له، أمّا أنا فازدواجية تفكير أمي كلفتني الكثير من الألم؛ فقد أنهى أخي تعليمه في الخارج كما كانت تتباهى أمام الجارات، وأنا أصبحت لطيمة الزمن، كسيرة الخاطر، لا شهادة، ولا ولد، ولا أمل بحياة أفضل".
وتزداد آلام "مجدولين" وأوجاعها بعد فقدان والدها؛ لأنّ أمها لم تكن قادرة على حلّ المشلات الأسرية، التي تواجهها ومنها تعليم الأبناء وتزويجهم وخصوصاً الإناث، فتقول بعد فقدان والدها: "بدأت أمي تضجر من ثرثرتي، تزجرني أحياناً وأحياناً أخرى تلهيني بأعمال المنزل وتنعتني بالمجنونة...أصبحت أمي بعد موت والدي أكثر تسلطاً وكانت دائمة الأوامر عصبية المزاج كانت تقول لي دائماً.."والله يا مجدولين إذا ما نجحتي بالامتحانات لأزوجك لأي واحد وأستريح من جنانك.. الأيام تسير ببطء شديد لأن النفسية متعبة لن أكمل تعليمي ما دامت أمي هي من أصبح بيدها الحل والربط"
لقد أصبحت "مجدولين" مكسورة الفؤاد، مجروحة الذات بفقدان الأب "الذي كان عينها وقلبها"، فهو نبع العطف والحنان، ومصدر القوة، وهو الأنموذج الراشد بالنسبة لها؛ لذا كانت تستحضره وتناجيه، وتتمنى وجوده في كلّ أمر يحزبها، وفي كلّ ضائقة تلمّ بها؛ لتخفّف أوجاعها وتلأم جراحها، تقول: "ليتك معي الآن..أحتاجك، أحتاج لحضنك الدافئ في هذه الأيام الباردة الجافة، ها هي روحك تحرّني كالعادة للخوض معك في حواراتٍ كما في الماضي" وتقول: "آه لو كان أبي موجوداً". وتقول أيضاً: "وأغلقت الباب وكنت أنادي والدي".
كما أنّ إجبار "مجدولين" على الزواج من ابن عمها "مصطفى" ظلم آخر وكارثة إنسانية وقتل للروح، حيث تقول: "دخلت أمي الغرفة، وأغلقت الباب وبدأت إمطاري بسيل من الشتائم: يا قليلة الأدب كيف بتحكي مع عمك ولي أمرك هيك؟ يخلف عليه اللي فكر يوخذ وحده مجنونة مثلك لابنه...اسمعيني منيح أنا مش حمل مصاريفك، وأبوك مات مديون لعمّك، وأخوك بدرس في بلاد الأجانب وبده مصاريف، وأنا مش قدّها، وإنتِ آخرتك تتجوزي، وبعدين همّ رايدينك إنتِ وجحا اولى بلحم ثوره، انتِ نمروده وما بتفهمي، مش فاهمة إنه عمك متكفل فينا بعد ما مات أبوك ما بتفهمي أبداً؟ أنا بعرفك بدّك تدوري على حلّ شعرك بالكليات لا حسيب ولا رقيب"؛ وهذا ما دفعها للتفكير بالانتحار والموت؛ لأنها تراه أرحم منهم جميعاً، فتخاطبه قائلة: "أيُّها الموت أقبل بسرعة لم أعد أحتمل هذا الألم..إلهي لا تمتني بالقرب من أهلي، لا أريد أحداً معي في آخر لحظاتي، سئمت نظراتهم التي لا تشفق ولا ترحم، أريد الموت بمفردي كما عشت وحيدة بين غربة الروح وجفاء الأحبة"، وتخاطب أمها قائلة: "لا ترميني لنار بيت عمّي إنتِ بتعرفيهم أكثر مني والله بموّت حالي ولا أتجوزه الموت أرحم منه... أفضّل أن أنحر نفسي على أن أذبح منهم ببطء".
وبعد أن تتزوج "مجدولين" من ابن عمها تصبح "كشجرة بائسة لا ثمر يرتجى منها ولا ظل يستظل به"، وتبدأ معاناتها الجديدة مع زوجها ووالدته، التي تجبرها على الذهاب معها لأحد المشعوذين؛ كي يعطيها علاجاً للإنجاب، فيغتصبها وتحمل منه سفاحاً، وتصاب بمرض يلزمها الفراش، فتعودها أمها في بيتها، فتروي لها ما حدث بالتفصيل فتكذّبها بدايةً، وتطلب منها كتمان هذا الأمر الخطير، وبعد أيام تمرض "مجدولين" مرة أخرى فأخذتها أمها إلى عيادة الطبيبة النسائية وهناك كانت الكارثة؛ إذ عرفت الأمّ ما حصل لابنتها، وعندها تفكر "مجدولين" بالتخلّص من الجنين لكنّ أمها تنهاها بشدة عن هذا الفعل المحرّم قائلة: "يما حرام والله ما رح ترتاحي طول عمرك لو نزلتيه، هذا ابنك قطعة منك انت مش عارفة الكلام اللي بتقوليه" فترد عليها: "انت آخر شخص يحكي عن الحرام كلمة الحرام ما بدي اسمعها على لسانك بكفي اللي صار بسببك كلمة وحدة بحكيها بدي أنزله وأخلص منه وبدك تساعديني كيف ما بعرف؟".
وينتج عن هذا الموقف حوار داخلي عميق وأسئلة مكثّفة في قلب "مجدولين" وعقلها تعكس اضطرابها النفسي، وتجسد ألمها ومعاناتها: لم أستطع أن أنطق ببنت كلمة، لم أكن أعرف ماذا أفعل؟ ولمن أشكو؟ فلا أمّ تهتم لأمري، ولا زوج ينتصر لضعفي، والجهل وعدم ومخافة الله أغشت الرحمة من قلب عمّي وزوجته"، و"لماذا يا أمي فعلت ذلك بي؟ كم من الألم استوجب عليّ حتى تشعري بي؟ كم من الخطايا حملّت بها جسدي لتقتنعي أن روحي تحتضر؟ لماذا سلمتني لرأس الشيطان ليتمكن من أنفاسي وأصبح لعبة يحركها كيفما شاء؟ كم أنا بائسة ببنوّتك، وأنت قاسية بأمومتك".
وأخيراً ينتهي الموقف بإسقاط الجنين "بدأت أنزف بشدّة أمسكت أمي بيدي تريد التخفيف عني لكني نزعت يدي منها وزجرتها بقوة لا أريدك معي، اذهبي واحضني نقودك لا أريد رؤية وجهك وأخرجتها من الغرفة وأغلقت الباب وكنت أنادي والدي" وهنا تسقط من قلب "مجدولين" كلّ مشاعرها الإنسانية، وتموت معاني الأمومة، تقول: "تموء بداخلي الأمومة كمواء قطة فقدت رضيعها في ليلة ظلماء لا أحد يفهم مواءها سوى ثدي تحجر بحليب طفلها، تموء فيكسر مواؤها صدى الصمت فتعانقه مسامع الريح وتنثره هنا وهناك".
لقد طرحت الكاتبة هذه الصورة النمطية للأمّ المتسلّطة القاسية، غير المتعلّمة، والعاجزة عن حلّ مشكلات أفراد أسرتها، غير مراعية في ذلك إنسانيتها، وصفات الأمومة المختزلة بداخلها التي يجب أن تتّصف بها، ولعلّ ذلك راجع إلى أسباب متعددّة أهمها التأكيد على الدور المحوري للأمّ في الأسرة، وهو الاشراف على تربية الأبناء تربية صالحة، والتركيز على حسن معاملتهم، والتقرّب منهم جميعاً ذكوراً وإناثاً، والمساهمة في حلّ المشكلات التي تواجههم بحكمة وعقلانية، وتقديم النصائح والإرشادات والتوجيهات لهم، والابتعاد عن التمييز بينهم، وممارسة الظلم أو التسلط عليهم؛ لما لذلك من آثار نفسية جسيمة قد تؤدّي إلى الأمراض النفسية والاجتماعية لدى أفراد الأسرة، وربما تدفعهم للعنف، أو ارتكاب الجريمة، أو الظلم، أو الكره وبالتالي خلق شخصيات غير سوية في المجتمع.
كما حرصت الكاتبة من خلال هذا الطرح توجيه رسالة ضمنية للآباء والأمهات بضرورة مراعاة شخصية الأبناء، وترك مساحات من الحرية لهم في اتخاذ قراراتهم الحاسمة والمصيرية، التي تحدّد اتجاهاتهم وميولهم ورغباتهم ومستقبلهم؛ الأمر الذي ينتج عنه خلق شخصية سوية قادرة على تحمّل المسؤولية وصناعة مستقبلها بمفردها.
ب: صورة "أمّ مصطفى" حماة مجدولين
رسمت الكاتبة أيضاً صورة نمطية للحماة أمّ الزّوج، فهي المرأة المتسلّطة الغيورة، التي تُرهق زوج ابنها في الأعمال المنزلية، وتكون واقفة إلى جانبه في كلّ الأمور ضدّ زوجه، تقول الكاتبة على لسان مجدولين: "زوجة عمي امرأة متسلطة كثيرة الانتقادات، سريعة الاشتعال، تلبس بيديها أثقالاً من الأساور الذهبية، الأمر الذي جعلها تظنّ أنّها تستطيع أخذ أيّ شيء ترغب به، وتستطيع حلّ أيّ مشكلة تعترض طريقها حتى لو كانت عن طريق الشعوذة، وارتياد مواطن الدّجالين والمشعوذين، كانت تغار من أمي أحيانا أشعر أنّها تكرهها كثيرا".
وهي المرأة الفضّة الغليظة القاسية القلب، التي لا تحترم إنسانية "مجدولين"، وتتلفّظ عليها بالكلمات النابية، وتمارس سطوتها وسيطرتها على البيت، وهذه صورة نمطية متكرّرة في بعض المجتمعات العربية، حيث تقول: "زوجة عمي كانت بارعة تتقن دسّ سم ألفاظها على مسامعي، ذات يوم اتهمتني بأني أسقط الأجنة عمداً لأني أريد قطع ذرية ابنها، وأحيانا تقول إني كاذبة لم أحبل، وإني أدعي الحبل حتى أريح نفسي من أعمال البيت، وأحيانا تقنع من حولي أن من يسقط أجنتي هو تابع لي ويجب عليها أخذي إلى شيخ المبروكين ليذهب عني تسلط تابعي، ويفك عُقدتي، ويرقيني من سحري. كنت أحتار بأي شتيمة ستمطرني بها... سمعت كل أنواع الشتائم عقيمة، معقدة، كاذبة، مسحورة وشتائم يستحي القلم عن ذكرها"، وتقول:" كانت زوجة عمي تناديني بالمجعومة الوجعانة لا أعرف معنى الأولى، لكنها حتماً شتيمة جديدة دخلت معجم الشتائم الخاص بي".
كما كانت تُحرّض ابنها على ضرب زوجه أمام أفراد الأسرة ولأبسط الأسباب، وتتظاهر بالفرح لذلك الموضوع، تقول: "آثار الضرب على جسدي متفاوتة الألوان، لم يرقّ قلب مصطفى هذه الأيام، ولم يتحدّث معي عمّي طوال الأسبوع، وزوجة عمّي تختال في المنزل اختيال المنتصر بجبهة الحرب"، وتقول: "زوجها يضربها أمام أمه ويزدريها أمام جميع العائلة وبدأ بلطم وجهها وجر شعرها".
وهي امرأة غير مثقفة وغير متعلمة وربما هذا من بين الأسباب التي تجعلها غير قادرة على حلّ مشكلات أفراد أسرتها ذكوراً وإناثاً؛ إذ تجبر زوجة ابنها "مجدولين" للذّهاب إلى المشعوذ من أجل الإنجاب، وتتهم الأطباء بعدم المعرفة والعلم، فتقول: "من سوء نيتك ورداية حظ ابني قلتله البنات معبيات الدنيا بس هو ما بدو غير بنت انشراح. اسمعي والله لو ما حبلتي لأخليه يتجوز عليك وإنت خليك مثل الأرض البور. من بكرة بتروجي معي لذيبان خليه يكشف عليك"، وتقول: "هو أنا ما عرضتك على دكتور وقال انه ما عندك مشكلة وطلع الدكتور ما بفهم طيب ليش ما حبلتي لهسا جاوبيني".
وعندما تطلب "مجدولين" من عمّتها أن تأخذها مع "مصطفى" إلى الدكتور كونها قد أسقطت حملها مرتين تُقيم الدنيا ولا تقعدها على حد قول مجدولين، وكأنّ الشيطان بدأ يتلاعب بعقلها ولسانها، فردّت بقولها: "والله وصار لك لسان تحكي فيه وبعدين وطي صوتك..شو قصدك يعني ابني ما بخلّف؟ والله لما ييجي لأحكيله بسيطة يا بنت إنشراح
هذه صورة نمطية أخرى للأمّ/ الحماة، وقد كانت موجودة في كثير من البيئات البعيدة عن المدنية والتعليم والثقافة في حقبة زمنية ليست بالبعيدة، وهي صورة تُبرز شخصية الأمّ المتسلّطة، التي تسيطر على جميع أفراد الأسرة، وتجبرهم على إطاعتها إطاعة عمياء، والأخذ بقراراتها وتوجيهاتها دون مناقشة أو اعتراض، وما ينتج عنه من طمس للشخصية.
خلاصة البحث
استطاعت الكريمين تقديم صورتين نمطيتين للأمّ من خلال روايتها "جدائل الصبر"، تلك الجدائل التي تخصّلت على أنّات الروح، وأوجاع القلب، وكشفت عن معاناة الأنثى، وصوّرت عذاباتها المتراكمة في مجتمع لا يرحم؛ إذ كبلّها بقيود بعض العادات والتقاليد الجائرة، التي أهدرت كرامتها، وسلبت حريتها، واغتالت إنسانيتها.
وقد تبدو هذه الصورة النمطية للأمّ غير متقبّلة عند عدد كبير من المتلقين أو القرّاء، لكنّها صورة كانت موجودة في فترة زمنية في مجتمعاتنا العربية وللأسف أنّ بعضها ما زال موجوداً في أريافنا، وقرانا، وبوادينا حتى اليوم للبعد عن المدنية والتعليم والثقافة، وهي صورة الأمّ غير المثقفة، التي تقف عاجزة عن إدارة شؤون بيتها بعد غياب الزّوج، وغير القادرة على حلّ المشكلات التي تواجه أفراد أسرتها، بالإضافة إلى صورة الأمّ /الحماة المتسلّطة، التي تفرض سيطرتها على أفراد الأسرة، وتمارس الظّلم على زوجات الأبناء، وهي أيضاً غير قادرة على حلّ مشكلات أفراد أسرتها ذكورا وإناثا خصوصاً لحظة غياب الزّوج، وهذا يشير ضمناً إلى تأكيد الكاتبة على أهمية وجود الأب كسلطة راشدة وفاعلة في إدارة شؤون البيت وحلّ مشكلاتها.
وركّزت الكاتبة في رسم الصورتين السابقين على إظهار الأبعاد النفسية والاجتماعية للأمّ، معتمدة على تقنية السّرد بضمير المتكلّم تارة، وعلى الحوار المباشر تارة أخرى
اما الاديبة ساميا شريعة، فقد كتبت نصا في ورقة عملها كما يلي :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله على سابغ نعمائه، والشكر له على وافر آلائه، خلق الإنسان، وعلّمه البيان، وجعل اللغة العربيّة لغةً باقية، تحمل إلى النّاس في مضامينها الخير والنّور ، وصلّى الله على صفوة الصّفوة من رسله وأنبيائه، على من جُعِلت معجزته الكبرى كتابًا أُنزِلَ بلسانٍ عربيٍّ مبين لينيرَ للبشريّة سبيلها، ويرسمَ بأحرفها طريق هدايتها ورشادها، وبعد:
فهذه الورقة أعددتُها لمتطلّب هذه الندوة الكريمة، والتي اختصّت بالأدب النثريّ وما تعلّق به من قضايا، وهذه الندوة التي امتازت بأن ترعاها معالي الدكتورة هيفاء النّجّار مأجورةً لها ما لها من أهميّة جليّة؛ فالحداثة اقتضت بأن تتبنّى الفن النثريّ أكثر ممّا سبق، كون النثر كان أقل شأنًا من الشعر الذي سرق اهتمام الباحثين والنّقاد من السلف. ومنه عنونتُ ورقتي هذه ب" نقد النثر المعاصر-المنهج والأسلوب" .
النقد خطاب إنشائي ثانٍ يصف الخطاب الإبداعي الأوّل، والنقد كما ذكره السابقون عبارة قديمة، عُرِف عند العرب قبل أن تستقرّ اللفظة. وتطوّر المصطلح بتطوّر الأجناس الأدبية إلى أن بتنا نلمس تمييزا واختلافا أجناسيًّا في التّعريف بين نقد النثر، ونقد الشعر.
فالأجناس الأدبيّة من أهمّ قضايا النثر المعاصر؛ حيث أفضى هذا إلى أن يدخل في تحديد الجنس الأدبي مفاضلات بين النّثر والشعر، فأصبح على الناقد أن يعمد بمنهجه المتبّع في تذوّق النص إلى إضاءة النّص وكشف معانيه التي قصد إليها المبدع أو لم يقصد رابطا الجنس الأدبي وما يميّزه عن غيره والسبب الذي جعل المؤلف إلى أن يهرب بإبداعه مضمّنا إيّاه في الجنس الأدبيّ المختار تحديدا .
تطور النقد بمناهجه مخلّفا قضية المصطلح النقدي. الذي أرسى اختلاف المناهج زمنيّا إلى: ما قبل الحداثة، الحداثة، وما بعد الحداثة... وكل منهج وله أعلامه الذين أرادوا به منهجا كاملا دارسا النصّ من كلّ جوانبه .
فجاءت البنيويّة : والتي تهتمّ بدراسة النّص الأدبي ذاته. وهو الأقرب لنفسي في استخدامه لتحليل النص الشعري والنثري على حد سواء لما بلغه من مستويات تدرس النص، من المستوى الدلالي إلى المستوى الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والرمزي وأرى بهذه المستويات نظرة شاملة للخطاب في النص وهو ما يهم الناقد حيث يفضي كل مستوى من هذه المستويات إلى إبداعا في النقد.
ولا ننسى أن التّحوّل في البنية النصيّة يعمد إلى تحوّلٍ في الدلالة.
أعلام النقد البنيوي:
من أعلام النقد البنيوي في الغرب: رولان بارت، وتزفيتان تودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم.
أما في العالم العربي فمِنهم على سبيل المثال لا الحصر: حميد الحميداني، وصلاح فضل، ومحمد مفتاح
والأسلوبية: وهذا المنهج يرتبط باللسانيّات، ودراسة الطريقة التي يقال بها الشيء فهي تركّز على الألفاظ والمفردات. ومن أهم أعلامه في الغرب وفي الوطن العربي. أمّا عن الغرب فنجد كل من شارل بالي وليو سبيتزر وميشال ريفاتير، ورومان جاكبسون وبيير جيرو وتودروف لالاند . أمّا في الوطن العربي فنجد: عبد السلام المسدي، سعد مصلوح، شكري عياد، صلاح فضل، نورالدين السد، عدنان بن ذريل.
أما النقد الثقافي:أهم الظواهر الأدبية التي رافقت ما بعد الحداثة في مجال الأدب و النقد، وقد جاء كرد فعل على البنيوية اللسانية، و السيميائيات، والنظرية الجمالية، التي تعنى بالأدب باعتباره ظاهرة لسانية شكلية من جهة، أو ظاهرة فنية وجمالية كم جهة أخرى. ومن ثم فقد استهدف النقد الثقافي تقويض البلاغة و النقد معا، بغية بناء بديل منهجي جديد يتمثل في المنهج الثقافي الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة ودراستها في سياقها الثقافي و الاجتماعي السياسي و التاريخي والمؤسساتي فهما وتفسيرا.
ثمة مجموعة من رواد النقد الثقافي غربا وشرقا، ومن أهم هؤلاء النقاد الغربيين الذين أثروا النقد الثقافي، نستحضر الناقد الأمريكي: فانسان ليتش، الذي اهتم بالنقد الثقافي منذ سنوات الثمانين من القرن العشرين، وخاصة في كتابه:" النقد والطابو:النقد الأدبي والقيم" 1987م، حيث بلور منهجية جديدة سمّاها النقد الثقافي، باستيحاء فلسفة مابعد الحداثة، وآراء ما بعد الماركسية. وقد اشتغل ليتش على تقويم ثلاثة نقاد أمريكيين، وهم الناقد واين صاحب التعددية الليبرالية، وروبرت شولز صاحب البنيوية، وهيليز ميلر ممثل التفكيكية. وقد أصدر ليتش مجموعة من الكتب النقدية، منها: مابعد البنيوية، والنقد الثقافي، والنظرية الأدبية، والنقد الأدبي الأمريكي،...
كثيرا ما يحدد النص النثري المنهج الذي يراد بالناقد اتّباعه، ليبقى الخلاف في ذائقة الناقد وقدرته على إطلاق أحكاما باقتحامه النّص الأدبي والاطلاع على خفاياه ومعانيه.