في ثلاث اوراق عمل جديدة، كتب الادباء والشعراء مريم العنانزه. د. فواز زعرور، وريما البرغوثي، عن الادب النثري،،
وابرزت أوراقهم الرابعة والخامسة والسادسة. مساحات من البحث والتحليل. بالادب النثري. بالتركيز على الرواية والقصة، كما يلي
▪ الأدب النثري القصة والرواية
▪مريم حسين محمود عنانز-
معالي الدكتورة هيفاء النجار وزيرة الثقافة... ومعالي الدكتور إبراهيم الياسين المشرف العام للندوة المكرم، سعادة الأستاذ غازي العمريين رئيس ملتقى السلع الثقافي...
أصحاب المعالي والسعادة والعطوفة...
أصحاب الأدب والفكر الرفيع...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أما بعد
▪مناسبة جميلة أن نتحدث عن الأدب النثري، بإلقاء الضوء عليه، بمبادرة من إحدى المبادرات المعتاد عليها في ملتقى السلع الثقافي، برعاية معالي الدكتورة هيفاء النجار وزيرة الثقافة، لها جزيل الشكر والعرفان، وكما نعلم هذه الندوة الخامسة عشرة لهذا الملتقى الثقافي، الموسومة ب(الأدب النثري القصة والرواية)، فالجهود دائما مميزة بما يقدم من تألق في طرح المبادرات الفاعلة للملتقى، بجهود أدبية مباركة، بحيوية وحماسة معهودين.
كما نعلم لكل أديب من الأدباء نهجه الذي يختطه في كتاباته، ورؤيته التي يريد أن يوصلها لقرائه، سواء كان شعرا أم نثرا، وهذه الندوة اختصت بالحديث عن النثر والقصة والرواية. والأدب النثري هو ما يرتقي به أصحابه إلى لغة فيها فن وبلاغة كبيرة، بكلام غير موزون أو مقفى. فتعددت أنواعه وفنونه: كالرواية والخطابة والمقالة والمسرحية والقصة والأمثال والحكم...الخ.
ظهرت الرواية والقصة القصيرة بصورتها الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بتأثير من عدة عوامل من أبرزها:
الموروث السردي العربي
الترجمة والاطلاع على الروايات الأوروبية
تحولات النهضة ودوافع التقدم
انتشار الطباعة وتطور الصحافة
وهذا ما أدى إلى نشر القصص والروايات المسلسلة، ويمكن أن نؤرخ لمرحلة البدايات في نشأة الرواية العربية بما ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وننهي هذه المرحلة بظهور نجيب محفوظ، أي حتى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، ومن أبرز الأعمال في هذه المرحلة، كانت موزعة وفق تيارات أساسية حكمت تلك المرحلة المبكرة للرواية:
تيار محاكاة الموروث الذي تمثل بفن المقامة والذي عدّ أساسا للأساليب القصصية العربية الناضجة وبدا في عدّة أعمال، من بينها: الساق على الساق فيما هو الفارياق، أحمد فارس الشدياق.
اتجاه الرواية التاريخية، ومن أشهر من كتبها جرجي زيدان في رواياته التي استمدها من التاريخ، كشجرة الدّر.
الرواية الرومنسية، تمثلت بوضوح بأسلوب جبران خليل جبران، كما جاء في روايته الأجنحة المتكسرة.
رواية السيرةالذاتية، وهي شكل قريب من أسلوب الرواية، كتب فيه عدد من الأعلام سيرهم الذاتية، كأعمال طه حسين في كتابه الأيام.
روايات تأثرت بالترجمة، وهي تلخيص أو تقريب روايات عالمية، لكن بتقريب تلك الأعمال من البيئة العربية بتغيير في الأسماء لتناسب ذوق القارئ العربي، وأبرز من فعل ذلك خليل بيدس، الذي ترجم اللغة الروسية بصورة أساسية.
صعدت الرواية مواكبة لتحولات المجتمع العربي بأقطاره وبيئاته وأطيافه، وهذه التحولات وجدت فيها الرواية ماده غنية اعتمدت عليها، كنكبة فلسطين الأولى والثانية وغيرها. فشكات فلسطين منطلقا لتيار واضح في كتابة الرواية العربية، فصورت أحوال فلسطين، كما رصدت آثار نكبة 1948 ونكبة حزيران 1967، فيما نرى بكتابات غسان كنفاني(عائد إلى حيفا)، و(الملهاة الفلسطينية) لإبراهيم نصر الله.
ومن العوامل والهواجس من الناحية الموضوعية والفكرية، العلاقة مع الغرب، وتحولات النفط والجزيرة العربية، والسجن، والقمع السياسي، والحرب الأهلية في لبنان...الخ.
وفي الحديث عن القصة القصيرة، فهي نوع سردي يميل للإيجاز والاختزال والاعتماد على خيط أوعنصر مركزي واحد، تتميز بقصرها، إذ تقرأ في جلسة واحدة، وبحبكتها التي تبدأ غالبا وسط الأحداث، وبمحافظتها على وجهة نظر واحدة وموضوع واحد ونبرة واحدة.
نشأت بصورتها الحديثة متزامنة مع نشأت الرواية، في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، نضجت ونشطت مع تطور الصحافة والمجلات، من أمثلتها قصص الأمثال والحكاية الرمزية والخرافية وقصص البخلاء ونوادرهم وكتاب الأخبار والمقامة.
ومن رواد القصة القصيرة، محمد تيمور، ومحمود تيمور، ومحمود طاهر، وإبراهيم المازني، وخليل بيدس، ومحمد صبحي أبو غنيمة، وغيرهم.
وهناك نوع من القصة ظهر حديثا، ألا وهو القصة القصيرة جدا، وهو فن نثري متميز ومشهور ونوع من الأدب الذي انشر في الفترة المعاصرة بشكل واسع، وأصبح نوعا سرديا قائما بحدّ بذاته، ولو قارنا بينها وبين القصة القصيرة، فهي بالحجم أصغر، وقد لا تتجاوز بضعة أسطر، وأحيانا قد لا تكون أكثر من سطر واحد.
ويتجلى هذا النوع من القصة بمجموعة من الأركان:
الجرأة، والوحدة، والتكثيف، والمفارقة التي تجمع بين المتناقضات والأضداد، وفعلية الجملة، والسخرية عن طريق التهكم والهجاء اللاذع والانتقاد بأسلوب فكاهيّ، والإدهاش، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، كما تستند على الانزياح، وهو خلخة التركيب والمعنى وتدمير الآلة المنطقية، والخروج عن المعايير اللفظية البصرية المألوفة، مع تخريب الانسجام الإيقاعي، ولا ننسى الاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطريقة اللقطة.
وتحت عنوان الرواية العربية المعاصرة. كانت ورقة العمل للاديب الشاعر د. فواز زعرور، تاليا نصها
بين الماضي والحاضر
▪إعداد د. فواز زعرور
تعد الرواية إحدى الفنون الأدبية الناشئة التي لم يمض على ظهورها أكثر من قرون ثلاثة في أوروبا، وقرن ونصف القرن في عالمنا العربي، وقد ظهرت أولى الروايات العربية عام 1867م تحت تأثير عامِلي الحنين إلى الماضي والافتتان بالغرب، والتأثر به. وقد تصدَّرت الروايةُ، بوصفها فنًا، مكانة مرموقة في أدبنا العربي في العصر الحالي، حيث استطاع هذا المذهبُ الفنيُّ الحديث النشأة خلال فترة قصيرة أن يتوصّل إلى مرحلة مرتبة من التطور جعلته يزاحم النظم العربي من شعر العرب، الذي لم يتخل عن مكانته في الصدارة التي ما نافسه عليها أيُّ فن من فنون الأدب، والدليل على هذا الأعداد الهائلة من الطبعات التي تطبع لكل رواية أنتجها الروائيون العرب في زمن كسدت فيه الكتب، فقد انطلق الروائيون العرب من المستوى المحلي والعربي إلى العالمية في زمن قياسي.
كان مؤرخو الأدب العربي حتى وقت قريب يعتبرون رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل هي أول رواية عربية عام 1913م أو عام 1914م بمفهوم الرواية المتعارف عليه عالمياً، وقد رفض المؤرخون اعتبار ما صدر قبلها من أعمال بأنّها أعمال روائية، وهذا شيءٌ ينافي ظهور الرواية العربية في القرن التاسع عشر، ويُعدّ أوّل ظهور للرواية العربية في القرن العشرين.
لكن المؤرخين الجدد المُتخصّصين بعلم السرد الروائي، عندما أمعنوا النظر في التاريخ المكتوب من الأدب، وذلك في العقد التاسع عشر، استنتجوا، على وجه الخصوص، أن الكتاب من سورية ولبنان احتلوا مكان الصدارة في هذا الجنس الأدبي، ولقوا الحظوة فيه. وكان أول هؤلاء الكتاب اللبناني خليل الخوري، صاحب جريدة حديقة الأخبار ومؤسّسها، وهو من قام بنشر الروايات المؤلفة والمعربة منذ بداية صدور جريدته عام 1858م، وكانت أول رواية مؤلفة نشرت فيها هي رواية "البراق بن روحان" من دون أن يأتي على ذكر اسم مؤلفها. بعدها، توجه خليل الخوري إلى نشر الروايات المعربة، وقد بدأ برواية "الماركيز دي فونتاج" ثم بعدها رواية "الجرجسين" وكلا الروايتين من تعريب نوفل.
نشر خليل الخوري روايته الخاصة التي عنونها بـ" وي إذن لستُ بإفرنجي" إذ قال: "إذا كنت أيها القارئ قد مللت مطالعة القصص المترجمة، وكنت من ذوي الحصافة والفطنة، فبادر إلى مطالعة هذا المؤلف الجديد"، وقد جاءت الرواية في 162 صفحة.
أما في سورية، فقد كتب فرنسيس مراش رواية مختلفة عن رواية خليل الخوري وعنوانها "غابة الحق" التي نشرت عام 1865م وطبعت ست مرات حتى عام 1990م. وفي الأعوام العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر، عكف جرجي زيدان في مصر على تأليف روايته التاريخية المبنية على أحداث تاريخ الإسلام، كما دخل أحمد شوقي مجال الرواية آنذاك وكتب ثلاث روايات نشرت كحلقات مسلسل في جريدة الأهرام، التي طبعت إحداها مؤخرًا واسمها "عذراء الهند"، وعن العملين الروائيين الأخيرين، فالجهود ما زالت مستمرة لتقديمها للقارئ العربي، وبعد هذا كانت رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل عام 1913م أو 1914م الرواية العربية التي شكلت بنظر المؤرخين منعطفًا مهمًا في مسار تطور الرواية العربية.
إنّ أيّ فنّ أدبي من الفنون يولد وينمو ويتطور، ويمر بمراحل تشبه مراحل نمو الإنسان من الولادة إلى الشيخوخة، وإن الرواية العربية، شأنها شأن كل الفنون الأدبية، بدأت بأساليب بسيطة وتطورت مع تطور المجتمع العربي إثر النهضات الفكرية التي أثرت على مجتمعاتنا العربية، وقد مرت الرواية العربية بمجموعة من المراحل وهي: عصور الجاهلية والإسلام، حيث يرى بعض المؤرخين أنّ العرب قديمًا عرفوا أنواعًا من النثر تُشبه الرواية، ولكن ليس الرواية التي نعرفها الآن، ومن هذه الأنواع النثرية الخطابة والتوقيعات والرسائل، كما كان العرب قديمًا يسردون، وفق ما سمي بأيام العرب، قصص المعارك والحروب التي كانوا يخوضونها آنذاك ، كما كانوا يروون أحاديث الهوى، وهذا ما أدّى إلى ظهور ما يعرف بالفن القصصي عند العرب نتيجة اتّصالهم بالشعوب الأخرى.
على العموم، يمكن القول بأن بذور الرواية العربية، أو ما كان معروفًا بالقصة، نمت خلال العصر العباسي، وفي هذا العصر عرفوا المقامات التي تعني ما يُحكى عن المغامرات، وهناك أيضاً رسالة الغفران التي ألفها أبو العلاء المعري، وهي رحلة تخيلها ويطرح بها كثيرًا من الأمور النقدية، وقصة حي بن يقظان، وتحكي قصة طفل نشأ دون والدين، وربته غزالة، وألف ليلة وليلة، لمجموعة من المؤلفين، حيث يحكي قصصًا شعبية متنوعة ترجمت إلى العربية خلال العصر الذهبي للإسلام.
بالانتقال إلى العصور اللاحقة، نرى بأن التغيير في الوضعين الاجتماعي والاقتصادي من جهة، والوضعين الثقافي والأدبي من جهة أخرى، يرجع بشكل عام بالنسبة لأي بلد إلى الأوضاع السياسية، ففي نهاية القرن التاسع عشر، احتك العرب بالغرب ووصلت الرواية في هذا العصر إلى الاستقرار، وتأثرت بالاتجاهات الغربية، وأصبحت تنتج أدبًا يلائم البلاد العربية، وكثرت حركات الترجمة والتعريب، وظهر عدد من الأدباء في هذه المرحلة مثل رفاعة الطهطاوي والمنفلوطي.
وفي العصر الحديث أخذت الرواية العربية شكلها الحالي، والخاص بكيانها العربي، وأصبحت أكثر تشخيصًا للواقع، ولم تقف عند الترجمة إلى العربية، بل أصبحت حركة التأليف هي السائدة، كما بدأت عملية ترجمة الأعمال الروائية العربية إلى اللغات الأجنبية، وتوجّه قسم كبير من الأدباء إلى الأعمال النقدية للرواية وتأليف كتب عن كتابة الرواية واتجاهاتها.
في سياق الحديث عن اتجاهات الرواية العربية يمكن القول أنه مع تطوّر المجتمعات التي تنتج الفن الأدبي "الرواية" فقد تعدّدت اتجاهات الرواية العربية تبعًا لمتطلبات العصر الذي تمر فيه، وللرواية العربية أربعة اتجاهات رئيسية هي: الاتجاه الرومانسي، الذي ظهر نتيجة حاجة المجتمع العربي، وطبيعة التطور العربي الذي وصل إليه، إذ إنّ حركة التّرجمة إلى العربية قد اهتمت بمعظمها بالأعمال الرومانسية في الرواية الأوروبية، وقد سارت النزعة الرومانسية في الرواية العربية في اتجاهات عدّة منها: الرواية التاريخية، مثل رواية "عبث الأقدار" لنجيب محفوظ، والرواية العاطفية كرواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، والرواية الوجدانية كرواية "أوديب" لطه حسين.
وهنالك الاتجاه الواقعي الذي يقوم على صراع الأضداد، ويؤمن بأنّ الطبقة العاملة ستنتصر على الرأسمالية في النهاية، والاتجاه الواقعي في الرواية العربية يضمّ تيارين هما: تيار الواقعية النقدية، وتيار الواقعية الاشتراكية، ومع أن ظهور الواقعية العربية كان نابعًا من ظروف البيئة، وطبيعة المرحلة، إلا أننا نلحظ تأثر الروائيين العرب بالروائيين الغربيين، مثل رواية "زقاق المدينة" لنجيب محفوظ، المستلهمة من رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز.
وهنالك اتجاه الوعي، الذي يمثل أحد التيارات المهمة في الرواية العالمية المعاصرة، وفي هذا الاتجاه عمل الروائيون على الولوج إلى العالم الداخلي للشخصيات بالاستناد إلى اكتشافات عالم النفس سيغموند فرويد، وأهم الأساليب المستخدمة في هذا الاتجاه هو المونولوج الداخلي، ويتمثل أول ظهور لهذا الاتجاه في الرواية العربية في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، إذ استخدم قانون التّداعي، في حين كانت رواية "الشوارع الخلفية" لعبد الرحمن الشرقاوي تُحاول تصوير الشعور بالمنطق التقليدي للكاتب.
وهنالك أيضاً ما يسمى بـ "الاتجاه الوجودي" الذي تأثر به الروائيون العرب نتيجة حركة الترجمة للأعمال الروائية الوجودية كروايات جان بول سارتر وألبير كامو، ومن أهمّ القضايا التي أثارها الكتاب الوجوديين في أعمالهم؛ قضيّة الحرية وقضيّة والالتزام، كما تتطرق إلى الناحية النفسية في خط سرد الرواية. ومن الروايات العربية التي سلكت طريق الاتجاه الوجودي رواية "ليلة واحدة" لكوليت خوري، ورواية "الباب المفتوح" للدكتورة لطيفة الزيات.
وفي سياق الحديث عن أسباب ظهور الرواية في العصر الحديث، يمكن القول بأن الرواية العربية في مطلع العصر الحديث ظهرت بعد اتصال الثقافة العربية بالثقافة الغربية، وهذا عن طريق البعثات إلى أوروبا، وترجمة بعض الأعمال الروائية إلى العربية. وبعد حركة الترجمة، جاءت حركة التأليف الخاص بالكيان العربي للرواية، وهذا كان وفقًا للحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وإن كل هذه الحالات تتبع الأوضاع السياسية الحاكمة لهذا البلد، فقد نشأة الرواية مع نمو الطبقة الوسطى، وكذلك توالي الاحتلالات على البلدان العربية التي واجه الناس خلالها الظلم والاستغلال والفقر. من هنا جاءت الحاجة عند الأدباء لرواية الأحداث التي يعاصرونها، ولم يقف الأدباء عند الفكر التخيّلي بالطرح للأحداث في عصرهم، وإنما باتوا يعالجون الواقع الاجتماعي للإنسان من خلال الأفكار التي يطرحونها في أعمالهم الأدبية، ويدفعون أبناء بلدهم إلى الوقوف في وجه من يسلب حقوقهم. وبهذا أصبح العمل الروائي يحمل في طياته قضية حقيقية، فهو ليس عملًا يهدف إلى التسلية.
ارتبطت الرواية المعاصرة في الأدب العربي بالواقع الراهن، وتكونت مع المتغيرات العالمية والمحلية، وأصبحت نقطة تأثير في كل عمل أدبي ينتجه الجيل الأدبي المعاصر، إذ ارتبطت فكرة الرواية العربية المعاصرة بطرح مفاهيم العدم وظاهرة الحرمان وظاهرة العنف الذي ما انفك يتفاقم في الكيان الثقافي والاجتماعي والسياسي عند العرب، فاتجهت الروايات العربية إلى تشخيص الواقع العربي المليء بالألم والأسى.
ومن الروايات التي آثر مؤلفوها اعتماد مفهوم العنف موضوعًا رئيسًا رواية "حكاية العربي الأخير" للكاتب واسيني الأعرج وهو يحاكي فيها الواقع العربي. كذلك رواية أحمد السعداوي "فرانكشتاين في بغداد" التي اعتمد فيها على السرد الواقعي، وهذا ما يؤكد توجّه الروائيين العرب المعاصرين إلى تجسيد الواقع العربي في أعمالهم الأدبية ما استطاعوا، وإن لجأوا في بعض الأحيان إلى الرمزية خوفًا من السلطات.
من أشهر الروايات العربية رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب الطيب صالح، التي تروي قصة طالب عربي يسافر من بلاده العربية إلى بريطانيا ويواجه الثقافة الغربية الجديدة، ويتزوج من امرأة بريطانية ترفض قبول إملاءاته. وهنالك رواية "رجال في الشمس" للكاتب غسان كنفاني، وهي الرواية الأولى له يصف فيها تأثيرات النكبة على الشعب الفلسطيني من خلال أربعة نماذج من أجيال مختلفة. أما رواية "عزازيل" للروائي يوسف زيدان فتدور أحداثها في القرن الخامس الميلادي بعد بسط الرعاية الرومانية على الديانة المسيحية، وما جاء بعدها من نزعات مذهبية وطائفية. ونذكر أيضاً الرواية "الثلاثية" للكاتب نجيب محفوظ، وهي مؤلفة من ثلاث روايات وترتيبها أولًا: "بين القصرين"، ثانيًا "قصر الشوق"، وثالثًا "السكرية"، وتدور أحداثها حول مراحل حياة شخص اسمه كمال ابن السيد أحمد عبد الجواد. أما رواية "رامة والتنين"، للكاتب إدوارد الخراط، فتدور أحداثها من خلال حوار يدور بين العنصر الذكوري والأنثوي المتجسد بالرجل والمرأة، كما جُبلت فيها تيارات ومكنونات أسطورية ورموز دلالية عميقة تعكس القوالب الحضارية عند الفراعنة من جهة، والإمبراطورية الرومانية من جهة أخرى، وتختم بالحضارة الإسلامية العريقة. ولا يفوتنا أيضاً التطرق للحديث عن رواية "شرف"، للكاتب صنع الله إبراهيم، وهي قصة روائية صُنّفَت من روايات أدب الزنزانة، وتقع في أربعة أجزاء تحكي قصة السجين أشرف الذي قتل الخواجة وتتحدث عن فترة وجوده في السجن. أما خماسية "مدن الملح" للكاتب عبد الرحمن منيف وهي خماسية: التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، بادية الظلمات، المُنبت، فتتحدث عن بداية اكتشاف النفط والآثار التي حلت بمدن وقرى الجزيرة العربية بعد اكتشاف النفط. وتتمحور رواية "البحث عن وليد مسعود"، للكاتب جبرا إبراهيم جبرا، حول الفلسطيني المتمرد وليد مسعود الذي يترك خلفه تاريخًا من النضال ضد الاحتلال الصهيوني، إذ يجعله الكاتب أشبه بالأساطير. وتمثل رواية "الزمن الموحش"، للكاتب حيدر حيدر، تيار الوعي وتمثل الشخصيات المثقفة التي تتخذ موقفًا علمانيًا رافضًا للتراث، ويجري السرد فيها بضمير المتكلم وتداعي الذكريات. وتحكي رواية "الشراع والعاصفة"، للكاتب حنا مينا، عن إحدى المدن في الجمهورية العربية السورية والملقبة بعروس الساحل الثاني بعد طرطوس، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، حيث صوّر الكاتب فيها أثر الحرب وما خلفته من آثار سلبية وقاسية.
بهذا أختتم هذا الاستعراض المقتضب لتاريخ ونشأة وتطور الرواية العربية عبر التاريخ وأهم مراحلها وكتابها
وصولاً إلى الرواية الحًديثة والمعاصرة آملا أن يحوز على العمل البحثي على رضا واستحسان زملائنا وقرائنا الأفاضل.
نهاية البحث
وتاليا نص الشاعرة ريما البرغوثي
ملتقى السلع الثقافيّ
ورقة العم السادسة
بإشراف معالي وزيرة الثقافة
د. هيفاء النجار
تعريف النثر
النّثر لغةً هو رمي الشّيء مُتفرّقاً، أما في اصطلاح الأدب فهو تأليف وإنشاء الكلام بلا وزن أو قافية، وهو نوع من أنواع الأدب، ويُقسم إلى قسمين:
الأول : وهو النّثر المُستخدم في لغة التّخاطب والكلام الاعتياديّ، وليس له سمة أدبية فهو وسيلة تخاطب وتواصل وتفاهم لا غير
أما الثّاني : فهو النّثر الذي يرتقي فيه أصحابه إلی لغةٍ فيها فنّ وبلاغة وإبداع وتصوير وهذا النّوع من النّثر هو الذي يهتمّ النُقّاد ببحثه ودراسته، وبحث ما يمتاز به من صفات وخصائص، ويُقسم إلی جزئين کبيرين هما
** الفنون اللسانية : وهي التي تقدم للجمهور مشافهة مثل الخطبة والمحاضرة والمناظرة
** والفنون الكتابية : وهي ما يصل للجمهور مكتوبا من البداية كالقصة والرواية والخاطرة والحكم والأمثال والمسرحية قبل تمثيلها على المسرح وغيرها وتُسمّى جميعًا
النّثر الفنيّ
أنواع النّثر
بما أنّ الّنثر هو كلام غير موزون أو مُقفّى، فتعدّدت أنواعه وفنونه، واختلفت باختلاف الزّمان والمكان والاستخدام، ويحتوي النّثر الكثير من الفنون، منها :
*** الرّواية:
وهي أكثر أنواع القصص طولاً، وذلك لأنّها تحتوي على أحداثٍ وتفاصيلَ كثيرة ودقيقة، وكذلك تحتوي على عدد أكبر من الشخصيّات، كما يتّم استخدامها لمُناقشة قضيّة مُعيّنة أو مجموعة من القضايا المُترابطة، وغالبا تستقي أحداثها من الواقع وأحيانا تكون من الخيال وتمتاز الرّواية بمجموعة من الصّفات والمُميّزات، منها
#تعدُّد الأحداث والشّخصيات والأزمنة، وتكون أحداث الرّواية معروضة بأسلوب سرديّ مُتسلسل وشيّق، وبالاعتماد على هذه الأحداث يتمّ وضع حبكة الرّواية وعقدتها.
# كما أنّ الرّواية تخلق في نفس القارئ انطباعاتٍ ومشاعرَ عديدة، وهي مُستمدّة من الأحداث الموجودة في الرّواية، ويُقاس جمالها بدقّة التّفاصيل المَروِيّة عن الشخصيّات وصفاتها، وحبكة الرّواية، وترابط الأحداث والزّمان.
وهي الفن في مُخاطبة النّاس وإقناعهم عن طريق الكلام المُختَصر والبليغ الذي يحمل وقعاً في النّفس عند سماعه، وهي أقدم فنون النّثر في الأدب العربيّ، ولها ثلاثة أجزاء تتكوّن منها الخطبة، هي المُقدّمة، والموضوع، والخاتمة. تتميّز الخطابة بقصر الجمل، وقلّة التّصوير البيانيّ، وسهولة ووضوح الأفكار، وجمال الكلمات والتّعبير.
*** المقالة:
وهي فن نثريّ عبارة عن قطعة إنشائيّة طويلة تُكتب نثراً، تُعالِج موضوعاً مُعيّناً من وجهة نظر الكاتب، وتتكوّن من ثلاثة عناصر، هي المادة، والأسلوب، والخطّة.
تُقسم المقالة إلى أنواع كثيرة ومُتعدّدة، منها :
المقالة العلميّة، والمقالة الأدبيّة،
*** المسرحيّة:
هي إحدى أشكال النّثر الأدبيّ ومن أقدم الفنون التي عرفها الإنسان في تاريخه، يقوم هذا الشّكل الأدبيّ على تجسيد قصة أو رواية على شكل حوار يمثل على خشبة المسرح، يكتبها المُؤلّف ويُمثّلها المُمثّلون ضمن حوار أدبيّ. تتكوّن المسرحيّة من أربعة عناصر، هي الحدث، والشخصيّات، والأغراض، والحوار. أنواع المَسرحيّة مُتعددّة ومُختلفة في المضمون والشكل، ومنها الملهاة، والدّراما، والمأساة. تُشبه إلى حدّ ما القصة، لكنّها تختلف في تجسيد أحداثها من قِبَل المُمثّلين أمام الجمهور بشكل مُباشر.
القصّة: هي فن نثريّ مُتميّز ومشهور جدّاً، عبارة عن أحداث تتناول حادثةً واحدةً، أو عدداً من الوقائع، بحيث تتعلّق هذه الوقائع بشخصيّات إنسانيّة منها وأُخرى غير إنسانيّة. تُقسم القصّة إلى قسمين حسب أحداثها، هما حقيقيّة واقعيّة، وخياليّة خُرافيّة، وممّا تتميّز به القصّة أنّها تُصوّر مُدّةً زمنيّةً كاملةً من حياة خاصّة؛ فهي تعرض سلسلةً من الأحداث الهامّة والشيّقة وفقاً لترتيب مُعيّن.
*** الأمثال:
تُعتَبر الأمثال عنصراً أساسيّاً في تكوين الهويّة والتّراث الثقافيّ للشّعوب، فلكل أمّة أمثال تُميّزها عن غيرها من الأمم، والمثل قول صياغته مُحكَمة، وقليل الكلمات، ومُوجز العبارة والتّعبير، ويُلخِّص تجربةً إنسانيّةً عميقةً، ويضرب في الحوادث المُشابِهة له، ويكون باللّغة الفصيحة أو العاميّة.
*** الحِكَم:
هي قول مُوجز مشهور رائع التّعبير، يهدف عادةً إلى الخير والصّواب والرّشد في التصرّف، يحتوي على تجربة إنسانيّة كبيرة. من خصائص الحكمة قوّة اللّفظ، ودقّة التّشبيه وروعته.
*** الوصايا:
من أنواع النّثر التي عُرِفَت في الجاهليّة، وهي قول حكيم صادر عن خبير يُوجّه إلى من يُحبّ ليستفيد منه، أو من هو أقلّ منه تجربةً. سُمِّيت بالوصيّة لاتّصالها بالميّت، وأجزاء الوصيّة كما الخطابة؛ العُقدة، والموضوع، والخاتمة. تتميّز الوصايا بالإيقاع الموسيقيّ، ودقّة وجمال الألفاظ، وتنوُّع الأسلوب، وسهولة ووضوح الفكرة المطلوبة.
الفرق بين الشّعر والنّثر
يُعتبر النّثر والشّعر عناصرَ رئيسةً ساهمت بشكل كبير جدّاً في بناء الأدب العربيّ عبر الزّمن،
يُعرَف الشّعر بأنّه كلام موزون مُقفّى، وتتبع القصائد الشعريّة أوزاناً وتفعيلاتٍ شعريّةً مُعيّنةً حتى تنتظم أبياتها على وزن واحد، لكن على الرّغم من أنّ النّثر كلام غير موزون، إلا أّنه مصبوغ بصبغة أدبيّة جميلة، ولا يُمكن التّفضيل بينهما؛ لأنّهما لا يجتمعان في صفات كثيرة، فتصعُب المُقارنة بينهما، لكن العرب عرفوا الشّعر قبل النّثر بزمن طويل، وإلى الآن لم يستقرّ الباحثون والنُقّاد على رأي واحد في أفضلية النّثر على الشّعر، أو الشّعر على النّثر.
كان هذا عرضا للفنون النثرية بشكل عام ولكني أود أن أفصل في موضوع نثري قصصي استحدث في العصر العباسي وهو :
*** فن المقامات ***
المقامات في اللغة جمع المقامة؛ والمقامة هي المجلس.
أما في الاصطلاح الأدبي فالمقامات هي :
حكايات قصيرة، تشتمل كل واحدة منها على حادثة لبطل المقامة، يرويها عنه راوٍ معيّن، ويغلب على أسلوبها السجع والبديع، وتنتهي بمواعظ أو طُرَف أو عِبَر. أي أنها حكاية قصيرة، تقوم على الحوار بين بطل المقامات وراويها. وتـتـضمن المقـامة عادة قصـة طريفـة حول أحد المُكْدِين (المتسوّلين)، وهم فئة المحتالين الأذكياء البُلغاء، إذ يستطيع هذا المُكْدِي - غالبا - خداع الجماهير بالحيلة والفطنــة والذكاء عبر إيهامهم بعلميّته وفصاحته وتديّنه وحسن سيرته.
بداية فن المقامات
ظهر هذا الفن العربي في العصـر العباسي؛ في القرن الرابع الهجري، واشتهر به أولًا بـديـعُ الزمـان الهمـذانـي (ت 398هـ/ 1008م)، لأنه أول من سمى نصوصه مقامات، وكــان من أكبر أدباء عصره المبدعيــن. ثم تلاه في الشهرة أبو القاسم الحريري (ت 516هـ/1122م). وهناك كثيرون كتبوا مقامات ذات مواضيع مختلفة، ومنهم مثلا: ابن نباتة (ت 405هـ) وابن ناقيا (ت 485هـ) والزمخشري (ت 538هـ) والسرقسطي الأندلسي (ت 538هـ)، السيوطي (ت 911هـ)، وناصيف اليازجي (ت 1287هـ) واسم كتابه: مَجْمَع البحرين.
وقد استعرضَ شوقي ضيف في كتابه (المقامة) مجموعة من أبرز من كتبوا في فن المقامة عبر التاريخ العربي الإسلامي، ومنهم المذكورون أعلاه وغيرهم
● شخصيات المقامة:
الشخصيتان الأساسيتان هما الراوي والبطل، وتقتضي الحكاية ورود شخصيات متنوعة في كل مقامة. وراوي المقامات عند الهمــذاني هو عيسى بن هشـــام، وبطلها أبو الفتح الإسكندري. والراوي عند الحريري هو الحارث بن همّام، والبطل أبو زيد السّروجيّ. والراوي عند السَّرَقُسْطي هو السائب بن تمام، والبطل الشيخ أبو حبيب.
يجدر بالذكر أن البطل والراوي هما شخصيتان خياليتان افتراضيتان، كما هو الحال مع الشخصيــات الأخرى التي ترد داخل المقامــة والتي تؤدي أدواراً مختلفة فيــها.
● أسلوب المقـامات:
تعتمد المقامة على السجـع كثيرا؛ لأنه يسهل حفظها ويجعل القارئ يعجب ويطرب لما فيها من إيقاع لفظي ظاهر من خلال الانتهاء بالحروف المتجانسة، كما تتميز المقامة أيضا باشتمالها عادة على غريب اللغة والألفاظ المعجمية، وبشيوع فنون البلاغة المختلفة: البديع والبيان والمعاني وخصوصا البديع والبيان، فالأول يوفر الموسيقا والإيقاع عن طريق السجع والجناس والطباق والمقابلة...، والثاني يهتم بالصورة عبر التشبيهات والاستعارات والكنايات...
● خصائص المقامـات بشكل عام
1- يختار كاتب المقامات لمقاماته بطلاً تدور حوادث المقامات حوله، وراويةً يروي تلك الأحداث. وقد سبق بيان الراوي والبطل عند الهمذاني والحريري أعلاه.
2 - تغلب على ألفاظها الغرابة، وتكثر فيها فنون البلاغة المختلفة من تشبيهات و كنايات واستعارات ومجاز. لذلك شرحها ودرسَها عشرات العلماء.
3 - تزخر بالقصص والحكم والعِبَر والمواعظ.
4 - تدور أغلب قصص المقامات حول الاحتيال والطواف بالبلدان لجلب الرزق بالإيهام والتنكّر.
5 - للمقامات فائدة تعليمية، فعندما يحفظها طلاب العلم والأدب فإنها تزودهم بذخيرة لغوية كبيرة ومفيدة.
6 - أسلوب المقامات يعجّ بالصنعة اللفظية من جناس وطباق مع التزام تام بالسجع. ومن ذلك قول البديع في المقامة البغدادية عن شخص سَوادِيّ (قادم من سواد العراق، وهو المنطقة الزراعية التي بين نهري دجلة والفرات): " فَإِذَا أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيُطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ: ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ؟ أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ ..".
● أهم السمات الأسلوبية لدی كل من بديع الزمان والحريري.
1- بديع الزمان: مقامات البدیع قصيرة النصوص في الأغلب، وفیها فصاحة وسهولة ووضوح، إلی جانب الدعابة والمرح والتهکم، وهو حسَن الابتکار، قلّ أن تجد له مقامتین في معنی واحد، وتُظهِر مقاماته جودته في السرد والوصف الحسّي والتحلیل، وعباراته رشيقة الألفاظ سائغة التراکیب تحوي أوصافا جميلة، ومع أنه يُكثر من الصناعة المعنویة (في الاستعارات والکنایات والتوریات خاصة) فإنه لا يُظهِر تکلّفا ولا إغراقا في السجع. والهمذاني یبدو بارعا في دراسة الطبائع وتصویر المعائب وعرض مساویء المجتمع. غیر أنّه لا یهدف دائما إلی إصلاح هذه المساویء بنصح أو برَدْع، وإنمّا غایته التهکّم بأصحابها وإطرافِ الآخرین بتصویرها واستعراضها، ويبدو كما لو كان ناقما على المجتمع.
2- الحريري: مقامات الحريري في الغالب أطول من مقامات البديع، وهذا الطول لا يعود لطول قصة المقامة نفسها، بل لأنه يجمع أحيانا حكايتين في مقامة واحدة. ويعود كذلك إلى إكثاره من الألفاظ المترادفة لمعنى واحد، وإيراد عدة جُمَل للمضمون ذاته، كما أن من أسباب طولها أيضا إکثاره من الشعر كتلك القصائد التي يشرح بها أبو زید أحواله، ویقص فيها أخباره. ولغة الحریري عميقة وصعبة، ولكنه يستخدم جُمَلا قصیرة ویقطعّها تقطیعاً موسیقیاً، فلا تتعدی جملته - في الغالب - الکلمتین أو الثلاث، وهو في إنشائه بادي الصنعة، ظاهر التکلّف، یتعمد الغریب من الألفاظ، ویُسرف في استعماله، ویُفرط في اصطناع المجاز والتزیین حتی تجفّ عبارته ویقل ماؤها ویعسُر مساغُها.
ومن أشهر مقامات بديع الزمان مقامتان؛ هما المقامة المَضیریة والمقامة البِشْرِیة. أما المقامة المَضیریة فتظهر فیها براعة البدیع في الوصف ودقة التصویر، علی شيء کثیر من السخرية وخفة الروح. وأما البِشْرِیة، فهي التي وفق بها بدیع الزمان لاختراع شاعر جاهلي تبنّاه التاریخ من بعده، وهو بِشْر بن عُوانة العَبْدي.
ومن أشهر كتّاب المقامات في الأندلس أبو الطاهر السَّرَقُسْطي (ت 538 هـ/1143 م)، فقد ألّفَ خمسين مقامة بعدد مقامات الحريري وسماها المقامات اللزومية، تناول فيها عدداً من الموضوعات المتنوعة في البيئة الأندلسية: فمنها الوصفية والوعظية والفكاهية والأدبية والنقدية وغير ذلك من موضوعات، وقد طرقت مقاماته العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وروابط الصداقة، ووصف الصديق، وتناولت موضوع الضيوف والكرم وما يكون من الكرماء من العطاء، وأشارت إلى المشكلات اليومية المتعلقة بحرفة الإنسان ومهنته، وهكذا جاءت المقامة تعبيراً عن حاجة اجتماعية لبيئة الكاتب، فقد صورت كثيراً من ظواهر المجتمع، وعالجت جملة من المشكلات الاجتماعية المختلفة، وعبّرت عن آراء الكتاب ومشكلاتهم وهمومهم الذاتية.
وفي نهاية المطاف نقول إن فن المقامات فن عربي أصيل من فنون الأدب القديمة، تميز بنقد الأوضاع العامة للمجتمع في قالب قصصي فني، معتمدا على الزخرفة اللفظية والفنون البلاغية مع معجم هائل من اللغة العربية القديمة.
آمل أن تكونوا قد استمتعتم بالحديث عن المقامات
جزيل الشكر لرئيس الملتقى الدكتور فيصل الرفوع
ولعميد الملتقى المكوك الذي لا يتوقف الأستاذ غازي العمريين