تمكن مجموعة مع علماء الاثار من اكتشاف تماثيل بأشكال رؤوس إنسان و مرفقة بمجموعة من المتحجرات التي وضعت في نفس المكان من قبل أشخاص ضمن نشاط مرتبط بعمليه الصيد في البادية الشرقيه. و هذا الاكتشاف يجعل الاردن موطن اقدم بناء من صنع الانسان بهذا الحجم الضخم بالعالم.
الاكتشاف جاء ضمن المسوحات الأثرية و الحفريات التي قام بها فريق من العلماء يشمل البروفسور محمد طراونه من جامعه الحسين بن طلال، ضمن مشروع الباديه الجنوبيه الشرقيه الأثري، و بالتعاون مع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى Ifpo و دائرة الاثار العامة في الاردن و وزارة الخارجية الفرنسية و جهات اخرى.
الموقع هو احدى مصائد الحيوانات البرية الواقعة الى الشرق من قاع الجفر. و تتكون هذة المصائد من جدران حجرية غير مرتفعة قد تمتد الى عدة كيلومترات و بشكل "محقان" له فم متسع عادة من الشرق و نهايه ضيقه عادة من جهة الغرب تتجمع فيها الحيوانات الواقعة في المصيده. و كذلك تتواجد المصائد في مجموعات تشكل حلقات صيد معقده و متطورة و ممتده لعشرات الكيلومترات لضمان اكبر ناتج صيد ممكن. و هذه المصائد، التي يطلق عليها الآثاريون كلمه kites بسبب تقارب شكلها بالطائرات الورقية، تتواجد باعداد كبيرة في الاردن في منطقة الازرق و البادية الشمالية الشرقيه و عبر الحدود في جنوب سوريا و شمال السعودية، لكن للاردن الحظ الأوفر منها حيث تتواجد و تتقاطع و باعداد من العشرات و ربما المئات.
لكن الاكتشاف الأخير يعتبر نقطه تحول في فهمنا لهذه المصائد و اعادة النظر اليها بشكل جذري. الأهمية الكبيره تأتي من اكتشاف جانب فني و ربما ديني/ عقائدي لعملية الصيد قبل ٩ آلاف سنه.
بينما في العادة يتم اعطاء اعمار لهذه المصائد من ٥ ال ٦ آلاف سنه من الان و ضمن العصر البرونزي ، قام هذا الاكتشاف باعطاء عمر اقدم بكثير و من العصر الحجري الحديث Neolithic B period ليفتح الباب على مصراعيه لإعادة دراسه مئات المصائد في طول الباديه و عرضها. و قد تمكن الفنيون من اعطاء تاريخ ضاعف دقته و مصداقيته اتباع أسلوبين مختلفين من تقنيات الاختبار و هم استعمال الكربون المشع radiocarbon (بقياس نصف عمر الإشعاع في المواد العضويه من الموقع ) ،من جانب، و استعمال التقنيه الاحدث و هي OSL Optically Stimulated Luminescence و المتمثلة بتحاليل مخبريه (تبين اخر مره تعرضت لها حبيبات الكوارتز في الرمل الى أشعة الشمس). و في حال تقارب أو تقاطع النتائج بين تقنيات مخبرية مختلفة تماماً نحصل على تواريخ موثوقة الى حد بعيد.
هذا اكتشاف بأهمية كبيرة فهو يربط بدايات الاستيطان و العمارة بنشاط صيد منظم و ليس بالنشاط الزراعي كما هو سائد. و هو من الأمثلة النادرة على وجود عدد كبير من المتحجرات ضمن ما يشبه المعبد او المكان المعد لطقوس دينية مرتبطة بعمليه الصيد و ربما الذبح تحديداً.
هنالك أمثلة نادرة جداً لتواجد متحجرات في مجموعات اثرية في اماكن اخرى في العالم، و في معظمها تتكون من قطع حلي و خرز و استعمالات في الدواء و في تصنيع ادوات صوانية من اصل اشجار متحجرة.
لكن الاردن اليوم هو البلد الوحيد بالعالم المتواجد به اكبر و اقدم مجموعة متحجرات جمعت و تم ترتيبها بشكل طقوسي ديني. و يوفر هذا الاكتشاف الأخير فرصه كبيره لاحتمالية تكرار هكذا "مصائد-مسالخ- معابد" في عشرات المواقع المماثلة في البادية الشرقية الأردنية، لنخرج حينها بحضارة خاصه متكاملة و معتمدة على عملية الصيد بشكل يتطلب تقنيات و تنظيمات اجتماعية و لوجستيه معقدة و متطورة، حضارة تعيد كتابة التاريخ و تملأ الفراغ بين الحضارة النطوفية الاقدم و حضارات العصر البرونزي الاحدث و بالتواز مع حضارة عين غزال التي اعتمدت على الزراعة بدل الصيد.
ولكن من اين جاءت قطع المتحجرات ؟ يوجد هذا الموقع ضمن خط من تكشفات طبقة الصخور من "تكوين الموقر" و هذه الصخور غنية بمستحثات الامونايت البحرية، و هي نوع من حيوان الأخطبوط الذي عاش في مياه بحر التيثس و انقرض قبل ٦٤ مليون سنه في مفصل زمني مهم من التاريخ الجيولوجي، في نهاية الفترة الماستريخية من اعلى العصر الطباشيري الكريتاسي. و يبدو ان الأشكال المميزة لمتحجرات هذا الحيوان قد اثارت الفضول لدى الإنسان في هذا الموقع قبل ٩ آلاف سنه ، حيث انها ربما اعتبرت ذات قوى او قدره او "بركه" ما لعبت دور في طقوس صيد و ذبح دينية محددة. و تتواجد أصداف الامونايت على خط سلسلة جبال منخفضه الى شرق و شمال قاع الجفر و غرباً حتى منطقة جرف الدراويش و شمالاً حتى محيط واحه الأزرق.
اما بخصوص التماثيل فهي ناتج أعجاب من صنعها بشكل حجارة طبيعيه من كتل بشكل قريب من رأس الانسان ليتم اضافة ملامح الوجوه باستعمال ربما حجارة صوانية كأزميل او مطرقة، فقبل ٩ آلاف سنه لم تكن تقنيات التعدين موجوده و بذلك لم يعرف الانسان حينها المعادن و الازاميل و الشواكيش المعدنية المطلوبة لعملية النحت و تشكيل الحجر.
وقد عثر الآثاريون في الموقع على كميات كبيرة من عظام الغزال، مما يشير ان عملية الصيد و الذبح ، و ربما تجفيف اللحوم، كانت اقرب إلى مصنع متطور ينتج كميات تجارية تفوق بكثير الاحتياجات الفردية لاعضاء العاملين في هذا "المسلخ المعبد" الكبير. و هنا علينا افتراض ان تجارة مقايضة لحوم الغزال ربما اعتمدت على أسواق مجتمعات إلى الغرب في الجبال الاردنيه و الاغوار.
و كذلك اتجاه معظم المطائد بفمها الواسع إلى الشرق و أحواضها المغلقة إلى الغرب، ربما يشير إلى صيد موسمي استغل عمليات الهجره الموسمية لآلاف الغزلان، ربما مع بداية الربيع هروباً من درجات الحرارة المرتفعة في صحراء العرب و باتجاه الأجواء الأكثر اعتدالاً صيفاً في هضبة الأردن على طول شرق الحفره الانهدامية و الأغوار.
و لكي نفهم هذه المصائد علينا ربطها في البحيرات القديمة في البادية و خاصه مع بيئة نهاية العصر الجليدي قبل ١٠ آلاف سنه، حيث استمرت بيئه مطيرة أوجدت عشرات البحيرات في الاردن و السعودية، منها قاع الجفر و بحيرة الحسا-جرف الدراويش و طبعاً بحيرة الأزرق و غيرهم كثير.
تفاجئنا بادية الأردن باكتشافات تغير تاريخ الحضارة الإنسانية المشتركة. فهذه البادية قدمت للعالم اكتشاف اقدم صناعة خبز عرفت بالتاريخ، و ذلك في موقع شبيكة إلى الشرق من الأزرق، من الحضارة النطوفية قبل ١٤٤٠٠ سنه، هذا الاكتشاف الذي صحح معتقدات العالم حيث كان الربط لتاريخ الخبز بالزراعة، ليعيد تاريخ الخبز إلى ٤ آلاف سنه اقدم و ربطه مع مجتمع الصيد و الجمع.
و يمكننا القول ان الاكتشافات التي سوف تغير كتب المناهج عالمياً قد تأتي بشكل اكبر من البادية و ربما الاغوار، اكثر مما قد تقدمة المواقع الكلاسيكية مثل البترا و جرش و المواقع المشابهة.
لدينا اليوم اقدم و أغنى موقع قام الانسان به بجمع المتحجرات و نحت التماثيل ضمن منشأه بنيت خصيصاً لصيد بكميات كبيره و بتنظيم اجتماعي إنتاجي طقوسي معقد و متطور الى حد بعيد.